ما الذي يجعل قضية “صفقة دواء” تتحول في أيام قليلة إلى عنوان رئيسي للنقاش السياسي في المغرب؟ ليست المسألة مجرد مسطرة شراء أو ترخيص لاستيراد مادة طبية ضرورية، بل تتجاوز ذلك إلى سؤال أعمق: من يحكم قطاع الصحة؟ ومن يستفيد فعلاً من الإنفاق العمومي على حساب المال العام وحق المواطن في العلاج؟
القضية التي فجرها النائب البرلماني عبد الله بوانو لم تُصدر دخاناً من فراغ. فالحديث عن صفقة دواء من وزير لوزير داخل نفس الحكومة يضع تضارب المصالح في موقع الاتهام المباشر، ويعيد فتح ملف ظلّ مطوياً أو مُهملاً:
هل تملك الحكومة ميكانيزمات تمنع استغلال النفوذ؟ أم أن التشابكات الاقتصادية والسياسية أصبحت أقوى من القوانين؟
البرلمان يستيقظ… متأخراً؟
اللجنة البرلمانية للقطاعات الاجتماعية تستعد لمساءلة وزير الصحة أمين التهراوي. خطوة تبدو إيجابية على مستوى الشكل، لكنها من جهة أخرى تعكس حجم الضغط السياسي والإعلامي الذي تسبّبت فيه تصريحات بوانو.
وزير العلاقات مع البرلمان، مصطفى بايتاس، هو من طلب الاجتماع. وهذا في حد ذاته رسالة مزدوجة:
-
محاولة امتصاص الغضب والجدل الآخذ في التوسع
-
ضبط النقاش داخل الأطر المؤسساتية قبل انفلاته للرأي العام
لكن هل تتحول الجلسة المرتقبة إلى مواجهة سياسية حقيقية؟ أم ستكون مناسبة لتكرار نفس الخطاب التقني حول المساطر والشروط والطلبات القانونية؟
الجوهر الأخلاقي يُغَيَّب… والرد الرسمي يناور
وزارة الصحة لم تُجِب عن السؤال المركزي: هل شركة الوزير سعد برادة هي التي فازت فعلاً بالصفقة؟
بدل ذلك، اختارت الوزارة التركيز على:
-
غياب الامتيازات والاحتكارات
-
احترام المساطر القانونية
-
شفافية طلبات العروض
لكن مشكلة تضارب المصالح لا تتعلق بالقانون فقط. فالقانون قد لا يمنع، ولكن الأخلاق العمومية تقتضي الامتناع. كيف يمكن لعضو حكومي أن يستفيد مادياً من قرار تتخذه حكومة هو جزء منها؟ حتى لو احترمت المسطرة، فذلك لا يجعل الاستفادة “مشروعة سياسياً”.
إن تجاهل البعد الأخلاقي وتحويل النقاش إلى جملة من المصطلحات القانونية هو، كما وصفه البعض: “الهروب من السؤال بدل الإجابة عنه”.
هل تحمي وزارة الصحة اللوبيات؟ بوانو يفتح ملفًا ثقيلًا ويطالب بتقصي الحقائق
“وزارة الصفقات”… عنوان يثير القلق
حين يقول بوانو داخل البرلمان إن وزارة الصحة أصبحت “وزارة الصفقات”، فإنه يضع أصبعه على جرح عميق في تدبير مرفق حيوي: هل يتم تحديد أولويات الصحة بناء على المصلحة العامة؟ أم بناء على مصلحة من يملك القرار والمال معاً؟
الأخطر في تصريحاته ليس الاتهام وحده، بل الإشارة إلى أن الدواء تم سحبه من المستشفيات لأن الكتابة عليه كانت بالصينية وغير مفهومة. هنا ندخل منطقة أشد خطورة: السلامة الدوائية مقابل الربح التجاري.
تكلفة سياسية… مؤجلة لكنها قادمة
هذا الملف ليس الأول. ومن الواضح أنه لن يكون الأخير. تضارب المصالح يظهر اليوم كأحد أبرز نقاط ضعف الحكومة الحالية، وهو ما قد ينعكس على:
-
صورة رئيس الحكومة وحزبه
-
الثقة في المؤسسات
-
مزاج الناخبين في الاستحقاقات المقبلة
المغاربة يتساءلون اليوم: إذا كانت الحكومة لا تستطيع حماية قطاع حيوي مثل الدواء من الشبهات… فكيف يمكن الوثوق بوعودها حول الصحة والحماية الاجتماعية؟
خلاصة تحليلية
القضية تتجاوز صفقة واحدة. إنها جرس إنذار بأن الحدود بين السلطة والثروة أصبحت رقيقة بشكل خطير.
المعادلة واضحة:
حين يتحوّل الدواء — الذي يفترض أن يداوي المواطنين — إلى مورد ربح بين أيدي أصحاب القرار،
فإن المرض الحقيقي يصبح في منظومة الحكم لا في المستشفيات.


