في زمن تتقلص فيه مساحات النقد من داخل الأحزاب، وتتزايد فيه مظاهر الانضباط الصارم أحيانًا إلى حدّ التماهي مع السلطة التنفيذية، يطرح قرار حزب الأصالة والمعاصرة بإعادة البرلماني هشام المهاجري إلى المكتب السياسي، بعد سنة من تجميد عضويته، سؤالًا سياسيًا أعمق: هل نحن أمام لحظة تصالح حزبي حقيقي مع التنوع الداخلي والنقد البنّاء، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مناورة داخلية لإعادة ترتيب الصفوف قُبيل الاستحقاقات الانتخابية القادمة؟
قرار أعلنته القيادية فاطمة الزهراء المنصوري في الدورة الثلاثين للمجلس الوطني للحزب، في نفس اليوم الذي التحق فيه البرلماني عادل بيطار بالمكتب السياسي أيضًا. التحليل الأولي قد يوحي بحالة “توازن تنظيمي” بين كفاءات ميدانية وأخرى سياسية تنظيمية، لكن خلف هذا المشهد، تُطرح أسئلة أعمق عن طبيعة العلاقة بين النقد من داخل الأغلبية الحكومية والانضباط الحزبي، خاصة في سياق يعاني فيه المشهد الحزبي المغربي من أزمة ثقة وتمثيلية، وفق ما أشار إليه تقرير النموذج التنموي الجديد لسنة 2021، الذي دعا إلى “تجديد النخب” وتعزيز “الديمقراطية الداخلية” في الأحزاب.
المهاجري.. صوت نقدي في قلب الأغلبية
منذ مداخلته الشهيرة أثناء مناقشة قانون المالية لسنة 2023، التي انتقد فيها السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة، شكّل المهاجري حالة فريدة داخل البرلمان: برلماني من الأغلبية يرفع منسوب الخطاب النقدي، في وقتٍ كانت فيه الأصوات المعارضة تبدو شبه مغيبة. وقد دفعت تلك الخرجة السياسية الجريئة الحزب إلى اتخاذ قرار بتجميد عضويته، واتهامه بمخالفة ميثاق الأغلبية. فهل عودة المهاجري اليوم تعني تراجع الحزب عن تشدّده؟ أم أن السياق السياسي، وما يرافقه من تحديات اجتماعية واقتصادية متفاقمة، فرض منطق المصالحة التنظيمية كضرورة؟
بين الحزم والانفتاح: إلى أين يتجه “الجرار”؟
الوصف الذي اختاره المهاجري لحزبه – “ليس ثكنة عسكرية بل فضاء للحوار” – يحمل في طيّاته نقدًا غير مباشر لمرحلة سابقة اتسمت بما يشبه الإغلاق المؤسساتي، ويبدو أنه يعكس أيضًا رغبة في تجاوز منطق “تصفية الحسابات الداخلية”. لكن هل هذه “الليونة” الجديدة تعبّر عن تحوّل حقيقي في العقل الحزبي؟ أم أنها مناورة محكومة بضرورات التوازن داخل التحالف الحكومي، خاصة مع تراجع شعبية بعض مكوناته، كما تُظهر مؤشرات استطلاعات رأي الشباب التي نشرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي في تقاريره الأخيرة؟
سياقات دولية: هل بدأت الأحزاب تعيد النظر في علاقتها بالنقد الداخلي؟
في تجارب ديمقراطية أكثر رسوخًا، بات يُنظر إلى الأصوات النقدية من داخل الأحزاب الحاكمة كعنصر قوة يضخ دمًا جديدًا في النقاش السياسي، لا كخطر ينبغي إقصاؤه.
في ألمانيا مثلًا، وداخل حزب الخضر، نجح الجناح النقدي في التأثير على قرارات الحكومة بشأن الطاقة والبيئة دون أن يُفصل أو يُجمّد. وفي بريطانيا، كثيرًا ما لعب نواب حزب المحافظين أدوارًا نقدية ضد قرارات رؤساء حكوماتهم دون أن يُنظر إليهم كـ”متمردين”.
فهل يتجه المغرب، في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية الراهنة، نحو نموذج سياسي يتسع للنقد المؤسساتي؟ أم أن “الاستثناء المغربي” سيظل محافظًا على منطقه القائم على المركزية الحزبية الصارمة؟
عودة المهاجري: دينامية تنظيمية أم انفتاح تكتيكي؟
بقراءة أعمق، فإن استعادة المهاجري قد تعكس أيضًا دينامية داخلية تهدف إلى ترميم الشرخ التنظيمي داخل الحزب، خصوصًا بعد مؤشرات عن فتور العلاقة بين القيادة وبعض قواعد الحزب في الجهات.
كما أن إشراك كفاءات برلمانية مشاغبة مثل المهاجري قد يُسهم في ترميم صورة الحزب داخل الرأي العام، بعد أن بدأ يُتهم، كما أظهرت بعض قراءات الإعلام الدولي، بالتماهي مع توجهات الحكومة دون مسافة نقدية كافية.
لكن هل هذا التحول مؤسس على مراجعة فكرية أم فقط على ضرورات انتخابية؟ وهل يستطيع الحزب الاستمرار في احتضان أصوات مثل المهاجري دون الدخول في أزمات جديدة؟ وهل ستُترجم هذه المصالحة إلى برامج ملموسة تعزّز الثقة بين المواطنين والأحزاب كما دعا لذلك تقرير “الآفاق الديمقراطية في شمال إفريقيا” الصادر عن مؤسسة IDEA الدولية؟
خلاصة مفتوحة: هل نعيد التفكير في وظيفة “الانضباط” داخل الأحزاب؟
بعيدًا عن التفاصيل، تكشف عودة المهاجري إلى المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة عن تحوّل في معادلة العلاقة بين الالتزام والانفتاح داخل الأحزاب المغربية. لكنها تفتح أيضًا الباب لمساءلة مفاهيم مثل الانضباط، الولاء، الاختلاف، الشرعية التنظيمية، وهل بالإمكان فعلاً أن نحافظ على وحدة الحزب دون قتل التنوع داخله؟
في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية ويُعاد فيه تشكيل الثقة في الوساطة السياسية، يبدو أن على الأحزاب أن تعيد تعريف نفسها لا فقط كآليات انتخابية، بل كفضاءات للنقاش والمساءلة، وإلا فإن خطر الانفصال بين المجتمع والسياسة سيظل قائمًا، وربما متفاقمًا.