في منشور بتاريخ 1 ديسمبر 2024 على منصة فيسبوك، طرح الباحث المغربي إدريس خضراوي رأيًا حول دور المبدعين في إغناء المعرفة النقدية بالأدب. أشار إلى أن الكُتّاب والشعراء يتمتعون برؤية أدبية تتسم ب”العمق والتميز وقوة التأمل”، تختلف تمامًا عن تلك التي تقدمها نظرية الأدب ومناهج النقد. يعزو خضراوي هذا التباين إلى اختلاف مصادر الإلهام لكل من المبدع والمنظِّر. وبينما لا ينكر تاريخ الأدب إسهام تأملات المبدعين النقدية في بناء مفهوم الأدب الحديث، لاحظ الباحث غياب هذه التأملات من الدرس الأدبي التعليمي سواء في المدارس أو الجامعات. انتهى خضراوي إلى خلاصة مفادها أن فهم الرواية والشعر بعمق يتطلب الالتفات إلى التأملات النقدية التي أنتجها المبدعون أنفسهم.
واقع النقد الأدبي المغربي: انفتاح أم إشباع؟
لفهم السياقات غير المباشرة التي دفعت الباحث إلى التعبير عن هذا الرأي، لا بد من النظر في واقع النقد الأدبي الراهن في المغرب. منذ بداياته المعاصرة، انفتح النقد المغربي بحماسة على معظم المناهج النقدية الأدبية الحديثة. ولكن، بعد عقود من الانفتاح المكثف، يبدو أن هذا المجال وصل إلى مرحلة يمكن وصفها بالإشباع أو المراجعة. العوامل الداخلية والخارجية، بما في ذلك تقلص أهمية المعرفة النقدية في سلّم المعارف الإنسانية، دفعت النقاد إلى إعادة النظر في أولوياتهم.
في هذا السياق، يعاني الفكر النقدي من انحسار الاهتمام به داخل حقول العلوم الإنسانية. اليوم، لا يتوجه للاهتمام بالنقد سوى المتخصصين القلائل في هذا المجال، وهو أمر يعكسه عزوف المبدعين الأدبيين عن الخطابات النقدية التي غالبًا ما يرونها غريبة عن عوالمهم التخيلية. حتى بين طلاب الأدب، تراجعت الكفاءة العلمية اللازمة للتعامل مع الفكر النقدي بجدية، ما يثير تساؤلًا جوهريًا: هل فقد النقد الأدبي المغربي مكانته كأداة لفهم الأدب وتطويره؟
النقد كظاهرة تجريدية: فجوة بين النظرية والتطبيق
رغم أن الفكر النقدي أنتج نظريات ومناهج ذات عمق وسحر، إلا أن الإفراط في تداولها بشكل مستقل عن الأدب أدى إلى جعل النقد ثقافة قائمة بذاتها. كثيرًا ما يردد الباحثون مفاهيم تلك النظريات دون التقدم خطوة نحو تطويرها أو استثمارها في قراءة الأعمال الأدبية بعمق. بدلًا من أن يصبحوا نقادًا يسهمون في بناء معرفة نقدية تتعلق بالنصوص، انشغل البعض بإنتاج خطاب نظري منفصل عن الأدب.
هنا، يُطرح السؤال: هل أنتج الناقد العربي المتخصص في هذه النظريات معرفة نقدية مفيدة عن الأدب العربي القديم والحديث؟ وهل كان اهتمامه بالنظريات نابعًا من رغبة في تطوير الأدب العربي، أم أنه مجرد تماهٍ مع التيارات الفكرية الغربية؟
تجربة الأدباء النقاد: فرصة ضائعة للنقد المغربي
عبر التاريخ الأدبي، أثرت تأملات أدباء مثل فلوبير، وفرجينيا وولف، وهنري جيمس، وميلان كونديرا، في تطوير المعرفة النقدية بأعمالهم وأعمال غيرهم. هذه التأملات التي جمعت بين الإبداع والنقد كان يمكن أن تكون نموذجًا لتطوير خطاب نقدي مغربي مختلف. مع ذلك، يبدو أن النقاد المغاربة فضلوا الاندفاع نحو المناهج النقدية المستوردة بدلًا من الاعتماد على تأملات محلية ذات خصوصية.
لماذا لم يتم تبني نموذج مشابه في النقد المغربي؟ وهل كان بالإمكان مقاومة موجة المناهج الغربية بأصوات نقدية تعكس خصوصيات الأدب المغربي وثقافته؟
التحديات الأكاديمية وضيق الأفق النقدي
التحديات الأكاديمية، بما في ذلك ضعف الموارد وضيق الوقت، ساهمت في ترسيخ هذا الانفصال بين النظرية والتطبيق. اليوم، يواجه النقاد معضلة: كيف يمكنهم التحرر من هيمنة النظريات المجردة والعودة إلى الأدب كمرجع أساسي؟ كيف يمكن إعادة التفكير في التعليم الأكاديمي للأدب ليشمل تأملات المبدعين كجزء لا يتجزأ من الدراسة؟
نحو إعادة الاعتبار لتأملات المبدعين
ما كتبه إدريس خضراوي يفتح الباب أمام مراجعة جذرية لواقع النقد الأدبي المغربي. هل يمكن للنقد أن يتبنى رؤية شمولية تستفيد من العمق التأملي للمبدعين إلى جانب الأدوات النظرية؟ وهل يمكن أن تصبح التأملات النقدية للأدباء جزءًا من المنهج الأكاديمي؟
ختامًا: دعوة لإحياء روح النقد
إن النقد الأدبي المغربي بحاجة إلى تجاوز مرحلته الحالية التي تطغى عليها التجريدية والارتباط المفرط بالنظريات المستوردة. إعادة الاعتبار لتأملات المبدعين قد تكون خطوة نحو بناء خطاب نقدي أكثر حيوية وارتباطًا بالأدب المحلي. فهل يكون هذا التوجه بداية لإحياء “روح جديدة” في النقد الأدبي المغربي؟