في مشهد قد يبدو عادياً في ظاهره، لكنه يحمل في عمقه إشارات لتحول استراتيجي في علاقة المغرب بثروته الحيوانية، شهدت مدينة بوزنيقة ميلاد الجمعية الوطنية للتحسين الوراثي بالمغرب، وانتخاب المهندسة الزراعية المتخصصة في الإنتاج الحيواني خلود بساق رئيسة لها. لكن، هل نحن أمام مجرد إطار مهني جديد؟ أم أمام محاولة لإعادة كتابة قواعد اللعبة في قطاع ظل لسنوات رهين التقليد والتفاوتات البنيوية؟
الجمعية، التي تضم في تركيبتها منتجين ومستوردين وملقحين وتقنيين مختصين وجمعيات تهتم بالسلالات المحلية، تطرح نفسها ليس فقط كتنظيم مهني، بل كمحور جديد لإعادة توجيه بوصلة السياسات الفلاحية الوطنية في ما يتعلق بالتحسين الوراثي والرفع من مردودية اللحوم والألبان.
من تحسين السلالات إلى ترسيخ السيادة الغذائية
في خلفية هذا الإعلان، يلوح مخطط “الجيل الأخضر 2020-2030” كإطار مرجعي، بل يمكن القول إن الجمعية جاءت لتكون إحدى أدوات تفعيل هذا المخطط على مستوى تربية الماشية، وربما لتسدّ ثغراتٍ ظلّت قائمة في ترجمة توجهاته على الأرض، خصوصاً فيما يتعلق بتحديث البنية الجينية للقطيع الوطني، وتحقيق التوازن بين الجودة والإنتاجية.
لكن هل تحسين الصفات الوراثية وحده كافٍ لضمان أمن غذائي دائم؟ وهل هذه الجمعية قادرة فعلاً على إحداث تغيير حقيقي في بيئة فلاحية تعرف تفاوتاً كبيراً بين المناطق؟ ثم، ما موقع الفلاح الصغير في هذا التوجه، وهو الذي يواجه صعوبات بنيوية في مواكبة التكنولوجيات الجديدة؟
خلود بساق: امرأة في قلب قطاع ذكوري
انتخاب المهندسة خلود بساق رئيسة للمكتب التنفيذي ليس حدثاً عابراً، في قطاع لطالما طُبع بالهيمنة الذكورية والمرجعيات التقليدية. فهل يعني صعود امرأة متخصصة في التحسين الوراثي إشارة رمزية لتحول عميق في العقليات؟ وهل سيكون لهذا المعطى أثره على أولويات الجمعية، خصوصاً في ما يتعلق بإدماج النساء القرويات في منظومة الإنتاج الحيواني المستقبلي؟
من التقني إلى السياسي: هل تتحول الجمعية إلى قوة اقتراحية؟
اللافت أن من بين أعضاء المكتب التنفيذي يوجد ملقحون وتقنيون معتمدون، أي أن الجمعية تراهن على قاعدة فنية ميدانية تُدرك واقع القرى والمربين. هذا المعطى يفتح الباب أمام تساؤل محوري: هل ستكتفي الجمعية بدور تقني صرف، أم ستنتقل لتُشكّل قوة اقتراحية تُطالب بتحديث التشريعات، ومراجعة سلاسل التوزيع، وإحداث صناديق دعم خاصة بالتحسين الوراثي؟
البرنامج المقبل: بين الطموح والقدرة على التنفيذ
حسب البيان، تعتزم الجمعية إحداث مراكز جهوية، وتنظيم حملات توعوية وتكوينية، وعقد شراكات مع مراكز البحث والقطاع الخاص. كل هذا يبدو واعدًا، لكنه يقود إلى سؤال أساسي:هل تمتلك الجمعية الموارد البشرية والمالية والإدارية التي تمكّنها من تحويل هذه الأهداف إلى واقع ملموس؟ وهل هناك تنسيق فعلي مع وزارة الفلاحة ومكتب السلامة الصحية لضمان استمرارية الإجراءات وديمومتها؟
سؤال المستقبل: هل تكون الجمعية جسراً نحو نموذج قروي جديد؟
ما يميّز هذا المشروع أنه لا يكتفي بتحسين الإنتاج، بل يحمل وعدًا ضمنيًا بخلق فرص شغل جديدة، وتعزيز الاستقرار القروي، وتحقيق العدالة المجالية. لكن يبقى التحدي الحقيقي في مدى قدرة الجمعية على أن تُصبح منصة للترافع العلمي والتقني، وأن تتجاوز دور التسيير إلى قيادة التحوّل.
باختصار، ليس تأسيس الجمعية مجرد خبر عابر، بل هو حدث يطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل السيادة الغذائية، أدوار النساء في التنمية القروية، وفعالية النماذج المهنية الجديدة في التأثير على السياسات العمومية. والأهم: هل نحن أمام بداية حقيقية لتجديد علاقة المغرب بثروته الحيوانية، أم أمام محاولة أخرى ستُجهضها البيروقراطية؟