في قلب محكمة الباشا التاريخية، حيث تعانق الحجارة ذاكرة المدينة البيضاء، وتتمازج أصداء الماضي بنبض الحاضر، اختارت المصممة المغربية مريم بلخياط أن تحتفي بـ18 سنة من الشغف والإبداع، عبر عرض استثنائي حمل عنوانًا شاعريًا: “همسات”.
لم يكن هذا العرض مجرّد تقديم لتشكيلة أزياء جديدة، بل كان طقسًا فنّيًا مغربيًا خالصًا، أعاد تعريف القفطان كوثيقة بصرية نابضة، وكوسيط راقٍ لحوار غير منطوق بين الجمال والهوية، بين المرأة وثقافتها، بين الأناقة وعمق الانتماء.
“همسات” ليست مجموعة خريف وشتاء فحسب، بل سردية أنثوية نسجت فصولها بخيوط من البرونز والذهب المعتق، وأقمشة تنبض بحنين الأورغانزا، وسكينة المخمل، ورقي الدانتيل. كل قطعة بدت كأنها تعتذر برقةٍ عن صخب الموضة السريعة، وتهمس: “هنا… يُصنع الزمن، لا يُستهلك”.
تشكيلة بلخياط لهذا الموسم، بألوانها الدافئة مثل الشوكولاتة الداكنة، الأخضر اللوزي، الرمادي الليلي والوردي الهادئ، كانت كأنها مشاهد سينمائية لفصل شتاء مغربي لا يتجمد فيه الحنين، بل يتدفأ بحكايات الجدات ورفّة خيوط الحرير.
واختيارها محكمة الباشا كمسرح لهذا العرض، لم يكن تفصيلاً معمارياً عابراً، بل تأكيداً على أن الموضة، حين تحترم الذاكرة، تتحول إلى فعل ثقافي، لا إلى مجرد استعراض تجاري. لقد تماهت التصاميم مع المعمار، كما يذوب الصوت في الصدى، ليولد عرض يحمل رائحة الزمن الأصيل وجرأة الرؤية الحديثة.
وفي زمن يسابق فيه العالم نفسه نحو التجديد، تتوقف بلخياط لتقول بلغة الموضة: “التجديد لا يكون إلا بالوفاء”. ووفاؤها كان واضحًا: وفاء للقفطان كهوية، وللمرأة المغربية كملهمة، وللتراث كمنجم لا ينضب من الجمال.
“همسات” بلخياط ليست مجرد محطة احتفالية بمرور 18 سنة، بل بيان فني أنيق يذكّرنا بأن القفطان المغربي ليس فقط لباسًا فاخرًا، بل سردية حضارية تحمل توقيع نساء رفضن أن يكون جمالهن عابرًا، فجعلنه متجذرًا في العمق والتاريخ.