لفتيت واستحقاق ما خُسِر: نحو مساءلة الشأن الترابي والجماعي
تصريحات وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، الموجّهة إلى المنتخبين والمستولين على أراضي الجماعات الترابية، تُعدّ لحظة مفصلية في العلاقة بين الدولة والمجال الترابي المحلي. حين قال:
«اللي دا شي درهم ولا شي أرض يردها… وإلا غادي نوصلو معاه لخْزِيت»
كان لا يوجّه كلامًا إلى فرد معيّن فحسب، بل إلى “منظومة” كاملة من العلاقات غير الرسمية التي استمرت لعقود داخل الإدارة الترابية. لكن ماذا يعني هذا الخطاب على أرض الواقع؟ وهل هناك دلائل واضحة تُشير إلى أن الدولة تستعد لحفر ما يُسمّى “نصف القرن” من الممارسات؟ وما هي حدود هذا الحفر؟
1. الوقائع والتسريبات التي استدعت الخطاب
تقرير متسلسل من المصادر الإعلامية يكشف أن ملفات متعلقة بتحويلات أراضي جماعية، وممارسات غير قانونية داخل الجماعات الترابية، لم تعد محليةً أو فردية فقط، بل ذات بعد مؤسسي. على سبيل المثال:
-
تم الكشف عن تحقيقات في عدد من الجماعات ضمن جهات مثل الدار البيضاء–سطات، فاس–مكناس، حيث يتمّ التحقيق في تحويلات أراضي جماعية بأسعار منخفضة للتطوير العقاري، بحضور رؤساء جماعات أو مستشارين موالين.
-
تسريبات من المحاكم الجهوية للتفتيش المالي والإداري بينت وجود “قنواته مشبوهة” داخل المجالس الجماعية لصرف الدعم والإعانات عبر جمعيات وهمية أو عبر تفويضات فردية، ما يشير إلى أن الفساد ليس محصوراً في الأراضي فقط بل في المال العام.
-
حالات محدّدة: مثلاً جماعة “مغوغة” في طنجة، حيث نائب رئيس جماعة يخضع للتحقيق بسبب “وثائق مزورة” وتتعلق أراضي جماعية بغابات وتحويلها إلى ملكيات خاصة.
-
تحذير رسمي من الوزارة أصدر مذكرة لتنظيم البناء على الأراضي الجماعية، ما يدلّ على أن الإدارة تدرك وجود فراغ تشريعي/تنفيذي استُغِلّ لسنوات.
هذه المعطيات تشكّل خلفية منطقيّة لتصريح الوزير: ليس مجرد خطاب تحذيري، بل استجابة لمجموعة من الظواهر المتراكمة.
2. ما المقصود بـ “نصف قرن من الفساد”؟
الخطاب الوزاري يوحي بأن ما يحدث اليوم ليس جديداً بل تراكم لعقود. لكن هل تعني الدولة أن تبدأ “تفتيشاً تأريخياً” يشمل ما بعد الاستقلال إلى الآن؟ هناك عدة مؤشرات:
-
ممارسات بيع أو تحويل الأراضي الجماعية أو السلالية – والتي لطالما أثارت شكاوى المجتمع المدني – تعود إلى سنوات خلت. مثلاً ملف “السولالية” (أراضي الجماعات السلالية) سبق أن تمّت ملاحقته من قبل الوزارة المعنية عام 2021.
-
المذكرة الجديدة لإدارة البناء على الأراضي الجماعية تعكس رغبة في ترميم القاعدة القانونية التي تركتها العقود السابقة بلا تنظيم كافٍ. هذا يعني أن الفارق الزمني للظاهرة يُقدّر بعقود.
-
في المقابل، لا توجد حتى الآن إعلان رسمي بأن التحقيق سيشمل كل التحركات منذ 1956 أو كل العقود الماضية بلا استثناء.
بالتالي، التحول ليس مفهومًا كأن الدولة ستفعل “مسحاً تاريخياً شاملاً” لكل الأنشطة منذ الاستقلال، بل هي تركيز على ما هو “فاعل”، أي ما يمكن استرداده اليوم، وما له مسار قانوني قابل للتنفيذ.
3. ما الذي ستحقّقه الدولة؟ وما الحدود؟
من تحليل المعطيات، يمكن استنتاج أن الدولة تسعى لتحقيق التالي:
-
استرجاع أملاك الجماعات الترابية التي تم التصرّف فيها بطريقة غير قانونية: الأراضي التي نُقلت بأثر يرجع إلى تحويل غير مشروع أو دون تطبيق القانون.
-
ضبط المسار الإداري والقانوني: إصدار تعميمات، تحديث السجلات، إغلاق ثغرات قانونية، إعادة تسجيل الملكيات، تغيير مساطر التفويض.
-
محاسبة المنتخبين والمسؤولين والوسطاء: عبر إحالة ملفات إلى القضاء، كما رُفعت ~30 ملفاً لدى النيابة العامة.
لكن هناك حدود واضحة:
-
لا تزال بعض القضايا “قيد التحقيق” أو بمجرد كشف أولي، ما يعني أن الانكشاف الكامل ليس ممكنًا حتى الآن.
-
بعض التحويلات قد تكون من حق الدولة القانوني أو تكون مضاعفات قانونية معقدة تتطلب سنوات لمعالجتها، مما يقلّل احتمالية “تصفية” فوراً لكل التحركات.
-
ما يُشاع عن بدايات ما بعد الاستقلال يحتاج إلى بيانات أرشيفية، وإرادة قانونية لإعادة النظر في العقود القديمة — وهذه مهمة ضخمة.
4. ما الذي تغيّر في منهج الإدارة؟ ولماذا الآن؟
لماذا تعلن الدولة بهذه اللهجة اليوم؟ يمكن تفسير ذلك عبر محاور:
-
تزايد الضغط الاجتماعي والميداني: حيث أصبحت الشكاوى من الأراضي والجماعات أكثر وضوحاً، وأصبح الشباب يطالب بمساءلة عبر الحراك الاجتماعي.
-
التحدّيات التنموية: توسّع المدن، ارتفاع قيمة الأراضي، والرغبة في المشاريع الكبرى جعلت من الموضوع “اقتصادياً” وليس فقط “قانونياً”.
-
رغبة في استعادة شرعية الدولة والمجالس المحلية: الفساد المحلي يضعف ثقة المواطن في الانتخابات والمجالس، مما يهدد شرط المدخل الديمقراطي المحلي.
-
إطار تشريعي وتقني جديد: استخدام أنظمة المعلومات الجغرافية (GIS)، وتحديث السجلات، ومذكرة تنظيم البناء على الأراضي الجماعية، كلها علامات على أن الدولة تستعد “للتنفيذ الجدي”.
5. أسئلة مفتوحة للجدل والمراقبة
-
هل سيُطاول هذا التحرك “كبار المتنفّذين” أو يقتصر على المنتخبين الصغار والوسطاء؟
-
إلى أي حد يمكن أن تصل الدولة في مراجعة عقود سابقة أو استرداد أملاك تم التصرف فيها منذ عقود؟
-
ما هي الوسائل التي ستضمن أن “الإرجاع” يتم فعلاً، وليس أن يتم مجرد ترحيل الملكية وسط تفاوض أو مساومة؟
-
كيف ستُحمى حقوق المواطنين العاديين الذين ربما تضرّروا من ممارسات غير قانونية؟
-
هل سيشعر المنتخب المحلي والدولة الحقيقية – وليس البطانات أو الوسطاء – بتغيّر في دورهم؟ وهل سينعكس هذا على الخدمات؟
6. ماذا يتوقّع المواطن؟ وما أدواته؟
من منظور المواطن، ما يحدث يجب أن يُترجم إلى:
-
نتائج ملموسة: أراضٍ تم استردادها، مشاريع تنموية بدأت بها الجماعات التي استُعيدت مواردها، شفافية في الصفقات.
-
مشاركة فعلية: أن يتم إشراك المجتمع المدني في رصد تنفيذ القرارات، وأن تكون المناقصات والبيع والإقالة معروفة ومفتوحة.
-
محاسبة مستدامة: ليس فقط حملة مؤقتة، بل نظام مراقبة يُحدّ من تكرار الانتهاك.
7. لماذا هذا الملف مهم وطنياً؟
لا يتعلّق الأمر فقط بأرض أو درهم. إن ما تستعيده الدولة هو مبدأ: مبدأ أن الجماعة لا تُسرق من داخلها، وأن المنتخب يجب أن يكون خادماً لا متسلّطاً، وأن المال العام ليس “غنيمة”. وعلى المستوى الوطني، هذا الملف يعيد بناء علاقة المواطن بالمؤسسة، ويُحاول سدّ الهوّة بين الخطاب التنموي والواقع المحلي.
خاتمة: بين الخطاب والواقع، اختبارٌ كبير
تصريحات لفتيت تحمل ثقلًا وزنيًا، لكنها تزال بداية. ما سيُحكم به التاريخ ليس من البداية التي أُعلنت، بل من مدة التنفيذ ووضوح النتائج.
إذا تم التتبع القانوني بشفافية، وإذا رُفض الاستثناء، وكان المواطن طرفاً في المراقبة، فربما نُشهد تحوّلاً في إدارة الجماعات المحلية والوصول إلى “ما يجب استعادته”.
أما إن بقي التحرك محدوداً أو انتُقيّ وفق حسابات سياسية، فسيُذكر فقط كأحد الخطابات التي «لم تكمل طريقها».
السؤال الأخير: هل سنشهد – في السنوات القليلة المقبلة – أن تُعرض أمام القضاء ملفات أراضٍ حُوّلت قبل خمسين عامًا وتُخيّر الجماعة بين تسوية أو إعادة؟ أم أن الخطاب سيبقى في حدود “التحقيق الجارية”؟
جدول منظّم لملفّات معلنة تتعلّق بتفويت أراضي جماعية أو جماعات سلالية في المغرب، مع روابطها والمعلومات المتوفّرة حتى الآن.
| # | الجهة/المكان | الموضوع | تاريخ النشر | الرابط | ملاحظات مهمة |
|---|---|---|---|---|---|
| 1 | جماعة آيت حمّو – الرحامنة | تفويت أراضي جماعة سلالية “الركيبات” بإقليم الرحامنة | فبراير 2025 | رابط Anfaspress | مساحة ~ 8 هكتارات، عقد كراء شكلية. |
| 2 | عدة جهات (وطنياً) | ملف السطو على أراضي الجماعات يعود إلى الواجهة | نوفمبر 2025 | رابط Aljarida 24 | عنوان تحليلي – لم يُحدد الجهات/الأراضي بدقة. |
| 3 | جماعة الدار البيضاء | تفويت عقارات جماعية تحت جدل | فبراير 2025 | رابط الصحراء المغربية | قيد النقاش داخل مجلس الجماعة. |
| 4 | جهات القنيطرة وتطوان … | تحقيقات تطال رؤساء جماعات بتفويت أراض بطريقة مشبوهة | يوليو 2024 | رابط Sabah Agadir | ستة رؤساء جماعات متورطون. |
| 5 | دائرة أوطاط الحاج – بولمان | أراضي الجموع السلالية مرتع للفساد والرشوة | نوفمبر 2024 | رابط Intelligencia | الإشارة إلى عشرات آلاف الهكتارات. |
| 6 | جهات عديدة – أملاك جماعية | تحقيق واسع لـ المفتشية العامة للإدارة الترابية حول تفويت أراض جماعية | يوليو 2025 | رابط الخليج العربي | إشارة لإشراك لجان مختلطة ومصالح مركزية. |


