وسط صمت رسمي وترقب قضائي: هل تنجح محاكم جرائم الأموال في محاسبة الفساد الترابي بالمغرب؟

0
199
صورة : و.م.ع

في تطور جديد يهم تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، تتحرك السلطة القضائية، بعد عطلتها الصيفية، نحو فتح ملفات ثقيلة تتعلق بمسؤولين ترابيين، على رأسهم رؤساء جماعات ترابية ومجالس إقليمية وجهوية وغرف فلاحية، يُشتبه في تورطهم في خروقات ذات طابع جنائي تمس تدبير المال العام، أبرزها التزوير وتبديد أموال عمومية.

من يقرّر؟ من يُحاسب؟ من يستفيد؟
السلطات القضائية تستند في تحريك هذه المتابعات إلى شكايات مباشرة وجهها مواطنون وفاعلون اقتصاديون إلى النيابة العامة، إضافة إلى تقارير صادرة عن المجالس الجهوية للحسابات ومفتشية وزارة الداخلية، مما يكشف أن القضاء لم يتحرك من فراغ، بل مدعوم بأدلة ومستندات رسمية راكمتها الأجهزة الرقابية لسنوات.

هذه القضايا المرتقب عرضها على محاكم جرائم الأموال منتصف شتنبر المقبل، تشمل رؤساء حاليين وسابقين، بعضهم سبق أن صدرت في حقهم أحكام بالعزل من قبل القضاء الإداري، لكن ظلوا يتحركون سياسياً وانتخابياً في ظل ما يُوصف بـ”الحماية السياسية” أو غياب الحزم الإداري.

ومن أبرز الملفات القديمة التي أُعيد تحريكها، ملف رئيس جماعة بإقليم برشيد، مطعون في ترشحه من قبل منافس له، بينما ولايته الحالية تقترب من نهايتها، في دلالة على أن العدالة تأخرت كثيراً في البت في خروقات محتملة تمس شرعية المسؤولين المحليين.

ملفات تشي بعمق الأزمة: فساد ممنهج أم غياب رادع؟
مصادر موثوقة أفادت أن الاختلالات المرصودة تتعلق بتدبير الجبايات المحلية، منها الرسم على الأراضي غير المبنية، وتراخيص النشاط التجاري والصناعي، إضافة إلى مخالفات قانون التعمير، التي غالباً ما تُستعمل كوسيلة للمحاباة أو الضغط الانتقائي.

كما برزت شبهات حول علاقات مصلحية بين بعض المسؤولين ومقاولين بعينهم، فُضّلت شركاتهم مراراً في صفقات عمومية داخل نفس الجماعات أو مجالات ترابية متجاورة. وعند التدقيق في دفاتر التحملات، رُصدت بنود موضوعة بعناية لضمان فوز هؤلاء دون منافسة حقيقية، خصوصاً في طلبات تتعلق بتجهيزات مرجعية أو نماذج تقنية محددة.

الصمت السياسي: غياب الأحزاب عن مشهد المحاسبة
الغريب في هذه المتابعات أنها تتم وسط غياب شبه تام للمواقف السياسية، حيث لم تُسجَّل أية ردة فعل رسمية من الأحزاب المعنية التي ينتمي إليها أغلب رؤساء الجماعات المتابعين، في مشهد يعكس هشاشة الالتزام الأخلاقي للأحزاب تجاه رعاياها المحليين.

فهل تواطأت النخب السياسية بالصمت، أم أنها فضّلت الانتظار حتى تتضح نتائج المحاكمات؟ وفي الحالتين، فإن الخاسر الأكبر هو المواطن الذي يُفترض أن تحميه الديمقراطية المحلية لا أن تبتلعه مصالح ضيقة.

صرامة متأخرة… هل تكون حاسمة؟
في سياق متصل، كشفت المصادر أن بعض العمال الجدد المعينين في إطار الحركة الانتقالية، أبانوا عن توجه جديد في التعامل مع ملفات التفتيش. فقد وجهت الإدارة المركزية لوزارة الداخلية هؤلاء المسؤولين الجدد، تحت إشراف الولاة، إلى تبني الصرامة وتطبيق المساطر القانونية دون أي اعتبارات سياسية أو انتخابية.

وأفادت الوثائق أن هؤلاء العمال رفعوا تقارير مفصلة بشأن أجوبة الرؤساء المعنيين على استفسارات لجان التفتيش، وهو ما يفتح الباب أمام تحريك المسطرة القضائية أو اتخاذ إجراءات إدارية لاحقة، وفق ما تنص عليه المادة 20 من القانون التنظيمي رقم 113.14 والمادة 142 من القانون 59.11.

نحو إصلاح أم إلى إعادة تدوير الفساد؟
بالرغم من حجم هذه الملفات وخطورتها، تظل الأسئلة مفتوحة:

  • لماذا انتظرت الإدارة والقضاء سنوات طويلة لتحريك هذه المتابعات؟

  • ما مصير الأموال المبددة؟ وهل ستُسترجع؟

  • كيف يمكن تفعيل مبدأ عدم الإفلات من العقاب في ظل البطء القضائي والسياسي؟

إن ربط المسؤولية بالمحاسبة لا يجب أن يُختزل في العزل أو المحاكمة فقط، بل يجب أن يكون مدخلاً لإعادة بناء الثقة في المؤسسات المنتخبة، وضمان عدالة التنافس داخل السوق العمومية، وإنصاف المقاولات النزيهة، والأهم من كل ذلك: حماية المال العام من أن يتحول إلى غنيمة سياسية أو اقتصادية.

خاتمة: من يجرؤ على المحاسبة حتى النهاية؟

ملفات التزوير، تضارب المصالح، تفويت الصفقات، خروقات التعمير… ليست أحداثاً معزولة، بل ظواهر تكشف أعطاباً عميقة في بنية تدبير الشأن المحلي.

فما لم يتم تحصين آليات الرقابة، وتوسيع صلاحيات المحاسبة لتشمل حتى الجهات الحامية للفاسدين، فإننا نخاطر بأن يتحول “ربط المسؤولية بالمحاسبة” إلى شعار موسمي… لا أكثر.

تنويه بالمصدر:

هذا التحقيق يستند في معطياته الأساسية إلى ما نشره موقع “هسبريس” المغربي، مع إعادة صياغة وتحليل وفق قواعد الصحافة الاستقصائية والتحليلية، وتركيب الأسئلة التي تهم الرأي العام حول المال العام، والمحاسبة، والحوكمة المحلية.