نظم ماستر تاريخ الجنوب المغربي و ماستر دراسات صحراوية وافريقية المنضويين تحت لواء شعبة التاريخ بكلية الاداب والعلوم الانسانية ابن زهر –اكادير- محاضرة افتتاحية يوم الخميس 4 نونبر 2021 بالمدرج الثالث ، بحضور منسقي الماسترين الدكتورين القديرين ، قيدوم شعبة التاريخ بجامعة ابن زهر عبد الكريم مدون ، والأستاذ الكفء والخلوق محمد بوزنكاض والدكتور القدير محمد لطيف و ثلة من خيرة أساتذة التاريخ الاجلاء بالكلية .و قد اطر المحاضرة الافتتاحية ، الدكتور الفذ ذو الاخلاق العالية والعلم الغزير محمد مازوني احد مؤسسي شعبة التاريخ بكلية الادب ابن زهر باكادير و احد أعمدة تاريخ الجنوب المغربي منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي الى الان ، واحد المتخصصين في التصوف الديني والذي انتقل اليه بنصيحة من شيخه و مؤطره واستاذه الدكتور والمؤرخ المرحوم محمد حجي المتوفى سنة 2003 ، صاحب الكتابات التاريخية الرصينة الكثيرة والغنية أهمها ، تاريخ الزاوية الدلائية وحول الحركة الفكرية بالمغرب في العصر السعدي وكتابات أخرى .
تناولت المحاضرة القيمة قراءة تاريخية معمقة في مسار تطور المدارس التاريخية و دينامية المعرفة التاريخية من عصر النهضة الى مدرسة الحوليات .
لن استعرض كل ما جاء به الاستاذ المازوني من افكار و احداث ولن اقف عند كل محطات مداخلته القيمة ، لكن سأحاول ان اسجل بعض الانطباعات و الافكار التي اثارتني في المحاضرة والتي ارغب في اطلاع القراء عليها والخصها بشكل متعسف في ثلاث افكار اساسية :
اولا: الدكتور المازوني استاذ جد متواضع في هيئته ، صاحب نكتة و سريع البديهة ، لكنه عميق في فهمه و علمه ومنهجية القائه و تسلسل افكار محاضرته حيث شكر في بداية محاضرته كل اساتذة الشعبة قديما وحديثا مثنيا عليهم واحدا واحدا وهذه من اخلاق العظام وقلما تجود الجامعة المغربية بامثال هؤلاء العلماء المتخلقين الذين يتواضعون امام الجميع ولا يدعون الكمال، وهذه لعمري هي سمة العلماء الاجلاء الحقيقيين عبر التاريخ.
كما انه لمح الى اسباب تخصصه في الفكر الصوفي الذي كان بالصدفة و بسبب توصية استاذه و “شيخه” المؤرخ العلامة محمد حجي الذي اشار له، بضرورة البحث في هذا المضمار ولا سيما ان الاستاذ المازوني ينتمي الى عائلة ذات اصول و توجهات صوفية ، اذ هو من سليل الامغاريين التامصلوحتيين ، محاولا الاجابة عن اشكالية تحويل الكيان الصوفي واستثماره ليكون معطى تاريخي و قد كانت أطروحته في الدكتوراة في الرباط حول “الزاوية والمخزن.. دراسة في علاقات المنظومة المخزنية بالجهاز الصوفي” بجامعة محمد الخامس في الرباط سنة 2002 .
ثانيا : محاضرة الدكتور المازوني كانت غنية بالمراجع الكثيرة التي اوردها في سياق تطرقه لمسار المعرفة التاريخية من عصر النهضة الى ظهور المدارس التاريخية ، حيث ان الدكتور المازوني اعطى للحاضرين باقة معرفية مؤسسة للفكر التاريخي كما اعطى اهمية كبيرة للفكر الخلدوني و منهجه في التطرق للتاريخ ، وأورد نصا مهما لابن خلدون، يعتبر قطيعة مع التاريخ الحدثي الاخباري الصرف ،بل اعتبر الدكتور المازوني ، ابن خلدون مؤسس النقلة النوعية في النظرة الى التاريخ كفن وعلم ، اذ المنظور الخلدوني للتاريخ لا يقتصر على التاريخ الحديثي والحدثي وتاريخ السير والعبر وتاريخ الحروب أي التاريخ السياسي فقط بل يعتبره ،علم يدرس الماضي بقدر ما يستنطق الحاضر و يبنى عليه المستقبل ، علم ينفذ الى باطن الاحداث ويدرس حيثياتها وعلل وجودها و مساراتها ، واشار في معرض محاضرته للنسخة التونسية لمقدمة ابن خلدون التي هي نسخة تزيد عن نسخة القاهرة بحوالي ثمانين صفحة ، كما رجح ان يكون ابن خلدون قد استفاد من التراث اليوناني في تعاطيه مع التاريخ كما تطرق الدكتور باحترام وتقدير لاساتذته محمد حجي و عبد الله العروي و بول باسكون ، واشار الى ضرورة الاهتمام بفلسفة التاريخ كضرورة معرفية اساسية لفهم وتأويل الوقائع التاريخية .
من المراجع الهامة التي ذكرها الدكتور المازوني في محاضرته نجد الكتاب الهام كيف نكتب التاريخ ؟ لصاحبه Veyne Paul المنشور في سبعينات القرن الماضي. كما تطرق لكتاب في المعرفة التاريخية لصاحبه Henri Irénée Marrou وكتاب دفاعا عن التاريخ او مهنة المؤرخ لصاحبه مارك بلوخ ، كما استعرض في معرض محاضرته، كتاب الاديب والمؤرخ العبقري الامازيغي سان اوغسطين وبالتحديد كتابه ” مدينة الله “La cité de Dieu الذي يؤول فيه كتاب الإنجيل من خلال اجتهاداته وتجاربه الدينية والروحانية متأثرا في ذلك بالفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة ، كما وقف الدكتور المازوني مليا على كتابات و اسهامات الراهب لورينزو و صاحب كتاب التاريخ النقدي Simon Richard وتطرق لبعض افكار دافيد هيوم خصوصا في كتابه، بحث في الطبيعة الانسانية حيث يجمع دافيد هيوم بين الدراسة التاريخية والتعمق الفلسفي كما اشاد الدكتور المازوني بكتاب فيكو العلم الجديد .
ثالثا: محاضرة الدكتور المازوني كانت توجيهية كذلك للطلبة الباحثين فيما يتعلق بمنهجيات البحث التاريخي و تقنيات طرح الإشكاليات و ضرورة الاطلاع على اللغات الحية لقراءة المصادر والمراجع من أصولها الأولى ، لكن الشئء الأهم الذي تطرق اليه الدكتور المازوني في نهاية محاضرته هو الإقرار بضرورة الانكباب على إضافة مادة او وحدة فلسفة التاريخ ضمن المواد المدروسة في الدراسات التاريخية في الجامعة المغربية ، لما لفلسفة التاريخ من أهمية في فهم وادراك الاحداث والمعاني والدلالات التاريخية في عمقها وشموليتها . كما أشار الأستاذ المحاضر كذلك الى ضرورة ربط تدريس الجغرافيا بالتاريخ والتاريخ بالجغرافيا باعتبار ان التفريق بينهما في التدريس قد افقد الطلبة الباحثين التكامل الضروري في الاستزادة من هذين العلمين المتكاملين .
بتقاعد الدكتور المازوني ستفقد الجامعة المغربية عموما و طلبة التاريخ في الجنوب المغربي احد أعمدة الفكر التاريخي الكبار الذين اجتهدوا وناضلوا من اجل التنقيب عن حفريات المعرفة التاريخية بالجنوب المغربي ، لكن حتما ستكون كتابات و دراسات و لقاءات الدكتور المازوني نبراسا لكل طلبة التاريخ ، لانه (المازوني) وعد الحاضرين بإخراج عدد من الدراسات التاريخية الى حيز الوجود قريبا .
حفظ الله استاذنا المازوني واطال في عمره وجزاه الله خير الجزاء عن ما قدمه طيلة هذه العقود في المجال التاريخي وفي مجال البحث العلمي في مجال التاريخ.