بتسليطه الأضواء على القطاع الثقافي ببلادنا يوم الإثنين الماضي، حرك رئيس الحكومة المياه الثقافية الراكدة بالمغرب، فقد أثار عرضه حول السياسة الثقافية نقاشا بناء داخل البرلمان، كانت بلادنا في حاجة إليه. فما جادت به قريحة الحكومة بشأن السياسة الثقافية ونواياها ذات الصلة بالشأن الثقافي يمكن اعتباره إعلانا عن مخاض الدولة الثقافية بالمغرب، وتحولا في الأدوار التي ستناط بالثقافة مستقبلا، في عالم لم تعد فيه حِمَى الملوك حيث تصل خيولهم بل حيث تصل لغاتهم وثقافاتهم.
فبإعلانه عن عزم الحكومة على تنفيذ التوجيهات الملكية السامية التي تؤكد على اتخاذ التدابير الضرورية لجعل الثقافة رافعة أساسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، من خلال إعداد استراتيجية متكاملة تهدف إلى تحديد التوجهات والاختيارات الرئيسية لبلادنا في المجال الثقافي، يكون رئيس الحكومة قد أجاب بالإيجاب عن سؤالين جوهريين، مازالا في صلب الجدل بين أنصار الدولة الثقافية ومناوئيها، وهما على التوالي: هل يمكن ان تخضع الثقافة للتخطيط؟ وهل يمكن للحكومة ان تصنع الثقافة وفي نفس الوقت توفر للمجتمع مايكفي من المستلزمات المادية والرمزية لصيانة ثقافته والنهوض بها؟
الدولة الثقافية بالمغرب ورهاناتها
الدولة الثقافية (Etat culturel) في سياقنا المغربي، تحيل إلى الاختيارات الاستراتيجية للدولة والتي بمقتضاها تصبح الثقافة خدمة عامة، كما تحيل إلى مجموع الأنشطة ذات الطابع الثقافي التي تقدمها الدولة للمواطنين بشكل مباشر دون تمييز تحقيقا لمنفعة عامة، كما تحيل إلى الانشطة الثقافية التي تقدمها الدولة بشكل غير مباشر للمواطنين من خلال تنظيم قطاع الخدمات الثقافية، حرصا منها على ان لا تخضع الثقافة حصريا لقوانين السوق، وحرصا منها كذلك على حماية الشخصية الثقافية المغربية وموروثنا الثقافي من الذوبان في قالب العولمة، وحمايته من الهيمنة الثقافية والغزو الثقافي.
فالدولة الثقافية هي التي تشكل فيها السياسة الثقافية أساسا مثينا تشيد عليه كافة السياسات العمومية، وقد لمسنا هذا التوجه في عرض السيد رئيس الحكومة حين أشار إلى أن ” السياسة الثقافية هي البنية التحتية التي تشيد عليها كافة السياسات العمومية، لذلك فإن تحقيق المواطنة الكاملة واستكمال صرح الدولة الإجتماعية بمواصفاتها الاجتماعية والمدنية والحقوقية، لا يرتبط فقط بمسلسل تطور المجتمع ونمائه الاقتصادي، بقدر ما يرتبط بالمنظور الثقافي والاستثمار في التنوع الثقافي الذي تزخر به بلادنا كثروة وطنية تطبع وجودنا الجماعي ومصيرنا المستقبلي بحيوية دائمة”.
في إطار الدولة الثقافية تكون للثقافة خصوصية ملازمة لها، باعتبارها الكل المركب الذي يشتمل على اللغة والمعرفة والعقائد والفن والأخلاق والعرف والقانون والعادات وكل القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع؛ عناصر يربط بينها رابط مثين، حيث يؤدي كل عنصر وظيفة حيوية ومهمة محددة وهذا الترابط هو الذي يشكل الكل الثقافي الذي يؤدي بكليته دورا اساسيا بالنسبة للمجتمع، كما أشار إلى ذلك الأنتروبولوجي برونيسلاف كاسبر مالينوفسكي.
إن ربح رهانات الدولة الثقافية بالمغرب، يتطلب الإرتكاز في بلورة الرؤية الاستراتيجية للثقافة المغربية، على السمات الخمس التي تميز خصوصية ثقافتنا؛ أولها: ارتباط الثقافة بالموروث الحضاري المغربي والتاريخ الطويل للأمة المغربية (هذا التاريخ الذي بدأ ينفض عنه الغبار خصوصا بعد الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب في غشت من سنة 2021)؛ ثانيها: القدرة على البقاء والصمود (نموذج صمود اللغة والثقافة الأمازيغيتين في وقت اندثرت فيه الكثير من لغات وثقافات شمال وجنوب البحر المتوسط )؛ ثالثها: الإضطلاع بأدورا حضارية (لا زالت آثار الثقافة المغربية خالدة وتأثيرها صامدا في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء والأندلس)؛ رابعها: الجمع بين الثابت والمتغير (استطاعت الثقافة المغربية الانفتاح على الثقافات الأخرى دون أن تفقد خصوصيتها)؛ خامسها: وعاء روافد وطابع ديناميكي ( وهذا ما أكدت عليه الوثيقة الدستورية في الفقرة الثانية من التصدير والمادة الخامسة من الوثيقة).
يتطلب كسب رهان الدولة الثقافية، أيضا، الحرص على أن لا ينفرط عقد الترابط والتلاحم الحاصل بين كل عناصر الثقافة المغربية، لأن هذه العناصر مجتمعة تشكل قوام التلاحم بين أبناء الأمة ومرآة هويتها وأصالتها كما أشار الملك إلى ذلك في أكثر من مناسبة. الحرص على أن لا ينفرط العقد يتطلب النجاج في التفعيل السليم لرسمية الأمازيغية في أفق تحقيق المساواة بين لغتينا الرسميتين، العربية والأمازيغية؛ فاللغة سمة ثقافية قائمة بذاتها، فهي منتجة للثقافة وجزءا أساسيا منها وشرطا لها إذ بفضلها تتم عملية اكتساب الثقافة. الحرص على أن لا ينفرط العقد يستدعي أيضا صيانة مقومات هويتنا الوطنية وفي صلبها الأمازيغية، فلا هوية بدون ثقافة ولا ثقافة بدون هوية.
مخاض الدولة الثقافية بالمغرب
مخاض الدولة الثقافية يحتمل ثلاثة سيناريوهات؛ أولها، أن تولد الدولة الثقافية بالمغرب سالمة معافاة؛ ثانيها، أن تخرج إلى الحياة بتشوهات وأمراض و عاهات؛ ثالثها، أن تولد ميتة. فلكي ينتهي مخاض الدولة الثقافية بسلام كما يتمنى ذلك جميع المغاربة، لا بد من تشخيص دقيق للوضع الثقافي ببلادنا وبلورة رؤية استراتيجية للنهوض بالثقافة المغربية، وهذا ما أكد عليه رئيس الحكومة في عرضه أمام البرلمانيين حين اشار إلى أن “الحكومة ستعمل من خلال قطاع الثقافة على تنفيذ التوجيهات الملكية السامية التي تؤكد على اتخاذ التدابير الضرورية لجعل الثقافة رافعة أساسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وسيتم ذلك من خلال إعداد استراتيجية متكاملة تهدف إلى تحديد التوجهات والاختيارات الرئيسية لبلادنا في المجال الثقافي، انطلاقا من تشخيص الوضع الثقافي الوطني وبلورة رؤية استراتيجية تروم النهوض بالقطاع الثقافي وإعداد إطار مؤسساتي وقانوني لمواكبة هذه الرؤية”.
إن بلورة الاستراتيجية الوطنية للنهوض بالثقافة المغربية يتطلب في اعتقادنا، إضافة إلى الإرادة القوية للحكومة، إطلاق نقاش عمومي في أفق بلورة تعاقد وطني حول السياسة الثقافية ببلادنا، كما أشار إلى ذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، سنة 2018، في رأي له حول المضامين الثقافية والإعلام، حيث أكد المجلس ضمن توصياته على :” إطلاق نقاش موسع بهدف بلورة تعاقد وطني كبير حول سياسة عمومية عرضانية تتضافر فيها قطاعات الثقافة والتعليم والإعلام والشباب والسياحة والاقتصاد الرقمي، لوضع الثقافة في قلب المجهودات الوطنية للإنخراط في » أجندة 2030 للتنمية المستدامة « ، وذلك باعتماد إرادة سياسية عملية واضحة في هذه المجالات “.
إن من شأن النقاش الوطني الموسع حول السياسة الثقافية ببلادنا تحقيق تملك المواطنين للاستراتيجية وانخراطهم الفعال في تحقيق أهدافها، فبدون هذا النقاش الوطني الموسع سيكون من الصعب الإحاطة بمشاكل الطلب الثقافي وإشكالية عزوف الكثير من المواطنين عن الثقافة، وتفضيل الكثير منهم للإنتاجات الثقافية الأجنبية، وهو ما يشكل تهديدا مباشرا للخصوصية الثقافية المغربية. كما أن من شأن هذا النقاش تمكين المغاربة من المساهمة في خروج دولتهم الثقافية إلى الوجود، وهو ما سيجعلهم اكثر حرصا على رعايتها والنهوض بها وحمايتها من هيمنة ثقافة العولمة والغزو الثقافي المتربص بالثقافات في عالم أسقطت فيه التكنولوجيا كل الحدود.
على سبيل الختم
في حوار صحفي أشار المفكر عبد الله العروي إلى أن المغرب جزيرة، فقدرنا كما قال أن بلادنا جزيرة مطوقة؛ لكن يمكن القول أن هذه الجزيرة المطوقة لها من مقومات النهوض وبناء الذات ما لا يتوفر لغيرها، إذا ما حسن استثمار تاريخنا العريق الذي يمتد على أزيد من ثلاثة وثلاثين قرنا، ونجحنا في استثمار موقنا الجيوستراتيجي المثالي، وحسن تثمين ثقافتنا الغنية بمكوناتها وكل روافدها، وحُصِّنَ أمننا اللغوي وأمننا الروحي، وصولا إلى بناء الدولة الثقافية ذات القدرة على إعطاء دفعة قوية للنهضة المغربية والنهوض بالقوة الناعمة لبلادنا، والتي لا تصنعها القذائف ولا الصواريخ بل يصنعها المثقف والشاعر والسينمائي والصحفي والمسرحي والممثل والرياضي وغيرهم من صناع القوة الناعمة.