أنجزت مؤسسة منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية دراسة حول الإعلام المغربي وأزمة كوفيد. وسعت المؤسسة إلى تحليل وضعية عينة من ستة صحف، ثلاثة منها حزبية وهي العلم والاتحاد الاشتراكي وبيان اليوم والأخرى غير حزبية وهي المساء والأحداث المغربية وأخبار اليوم. وغطى هذا البحث 96 عددا نشرتها مؤسساتها الصحفية خلال مرحلة الحجر الصحي الشامل ما بين أبريل ويونيو2020. وقد تم اختيار الأعداد بطريقة عشوائية من خلال اختيار عددين من بداية الشهر وآخرين من منتصفه وعددين من الأسبوع الأخير. واعتمدت تقنية البحث على بناء» شبكة لتحليل المضمون « طورها فريق منصات هدفت إلى الرصد الكمي لمضمون الصحف من خلال رصد سمات الخطاب المنتج.
وبالرغم من أهمية النتائج والمعطيات الكمية التي أمدتنا بها هذه الوسيلة البحثية، فقد اعتبر الفريق أن البحث لا يستقيم، دون استكماله بالاتجاه نحو الفاعل الفرد المنتج للمحتوى، أي الصحفي. وذلك من منطلق ضرورة فهم الشروط التي أنتجت فيها تلك المواد الصحفية، و فهم المعنى الذي يعطيه ذلك الصحفي لتلك المواد كما لذاته ودوره في ظرفية وبائية استثنائية بكل المقاييس. وبناء عليه، عمل فريق البحث على بناء دليل لمقابلات موجهة مع الصحفيين، في تناسق وتكامل مع محاور شبكة تحليل المضمون المعتمدة. واعتمادا على ذلك الدليل تم إنجاز 12 مقابلة مع صحفيين مهنيين، اشتغلوا خلال فترة الحجر الصحي الشامل في مؤسسة إعلامية تصدر جريدة ورقية. وقد خضعت محتويات تلك المقابلات المنجزة، لتحليل كيفي باعتماد شبكة تحليل تم بناؤها من طرف فريق البحث، لفهم المعنى والدلالة المتضمن في ثناياها.
حاولت الدراسة الإجابة عن سؤال مركزي أساسي وهو كيف تفاعلت الصحافة المغربية الورقية، حزبية وغير حزبية، مع هذه الأزمة الوبائية؟ وعن هذا السؤال المركزي تفرعت العديد من الأسئلة الفرعية: ما شكل، وما مضمون، وما اتجاه الخطاب الذي أنتجته؟ وكيف حضرت مختلف المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية في خطاب هذه الصحف؟ وهل تفاوتت مضامين الخطابات المنتجة خلال هذه الأزمة تبعا لمتغيري الحزبية وغير الحزبية؟ وهل شعر الفاعل الإعلامي بثقل الأزمة من حيث تأثيرها على هامش حريته أم أن “حرية التعبير” بقيت خارج تأثير سياق الأزمة؟ وحول نتائج البحث أكدت الدراسة أن الصحف المدروسة أحالت بنسبة تفوق 36% على الحقل السياسي أثناء تناولها للأزمة الوبائية. ويأتي الحقل الاجتماعي في المرتبة الثانية بنسبة 32% مقابل نسبة إحالة تصل إلى حوالي 18%. واحتل الحقل الاقتصادي المرتبة ما قبل الأخيرة بنسبة إحالة تصل إلى ما يفوق قليلا 12%، أما الحقل الديني فكانت الإحالة عليه هامشية بحوالي 1%. ومن جهة أخرى، هيمنت على الصفحات الأولى للصحف المدروسة أخبار كوفيد واحتلت المساحة المخصصة له أكثر من80% من الصفحات الأولى لجرائد العينة. كما تم تسجيل تراجع المواد الإعلامية الهادفة إلى تحقيق المتعة، بالإضافة إلى تراجع المساحات المخصصة للإشهار، أخبار النجوم، و”الفضائح”.
وفي سياق آخر، كشفت الدراسة الهشاشة التي يعاني منها الجسم الصحفي سواء على مستوى هشاشة الوضع السوسيومهني للصحفيين من جهة. ومن جهة أخرى، ضعف أدوات العمل ونقص الاستعداد والتكوين حيث وجود إقرار عام بانعدام التحضير للأزمات مع عدم وجود خطة تواصلية للأزمات لدى الصحف المدروسة. وأمام انعدام خطة تواصلية خاصة بالأزمة لدى العينة المدروسة، واجه الفاعل الإعلامي إكراهات وضغوطات النشر الإلكتروني من خلال إجراءات تقنية، تعزيز الرقابة الذاتية، الإعلاء من المسؤولية الاجتماعية، والالتزام بأخلاقيات المهنة. ورصدت الدراسة تعميق الأزمة لهشاشة وضعية الصحف الورقية حيث عاش الصحفيون تحت وقع تهديدات وخوف على وضعيتهم المهنية، وبالمقابل كشفت الدراسة أن الصحف الورقية، وبالرغم من كل الصعوبات التي تواجهها على مستوى المقروئية، والمنافسة من طرف وسائل إعلام بديلة، لا تزال فاعلا رئيسيا في الحقل الإعلامي المغربي. وفي هذا السياق، مثلت الصحف الورقية بشقيها الحزبي وغير الحزبي حائط صد أساسي أمام الشائعات. ولعبت دورا تحسيسيا وتوعويا. ساعدها على ذلك اعتمادها على مخزونها المهني والتقاليد الإعلامية المهنية في التعاطي مع الخبر واستقاء المعلومة.
ومن خلال تحليل مضمون الصحف ومواقف الصحفيين، ظلت المؤسسة الأكثر تعرضا للاهتمام والنقد في نفس الآن هي المؤسسات الصحية. وتأتي في المرتبة الثانية الخدمات الاجتماعية فيما احتل التعليم والأمن ذيل قائمة المؤسسات المنتقدة، وغابت الإحالة خلال هذه المرحلة على المؤسسات الدينية. وشكلت الأزمة فرصة لطرح عدد من الأسئلة على وظيفة الفعل الإعلامي بصفة عامة ووظيفة الصحفي وهويته ودوره الوظيفي في زمن الجائحة. وكشفت الدراسة بروز وعي لدى الصحفيين بأن الزمن الرقمي لا يمكن أن يقتل الورقي بل إن الصحف الورقية مهددة بالانقراض إن لم تستفد من الرقمي الذي يمكن أن يتحول إلى منقذ وهو ما جربه الصحفيون في لحظة هجينة بين نشر إلكتروني وشكل ورقي.. ومن بين النتائج الأكثر إثارة للاهتمام، غاب بشكل شبه كلي أي استحضار لمقاربة النوع في مضامين الصحف وعنواينها. وفسر الصحفيون المستجوبون ذلك بطبيعة السياق الخاص للأزمة الوبائية حيث “يعلو واجب التضامن على واجب الاهتمام بما سماه البعض منهم قضايا فرعية غير ذات أهمية”. كما قدموا تفسيرا دالا هو بحثهم عن المعلومة في زمن كوفيد والمعلومة لا تتوفر لدى النساء وإنما خاضعة لهيمنة الرجال” كما ذكرت إحدى الصحفيات. وفي سياق متصل، كشفت الدراسة عن ارتفاع مستوى تماثل الخطاب الإعلامي المنتج مع الاستراتيجية الرسمية حيث تراجع الخطاب النقدي مقابل إفساح المجال لخطاب المسؤولية والتحسيس والتوعية والتماهي مع الخطاب الرسمي لاستراتيجية الدولة المبني على بناء وعي جمعي لمواجهة الجائحة. وباستثناء جرعة النقد اتجاه المؤسسات الصحية والتي تفوقت فيها الصحف غير الحزبية على نظيرتها الحزبية لم تسجل الدراسة فروقا واضحة بين مضمون خطاب الصحف الحزبية ونظيرتها غير الحزبية. العديد من الاحتمالات يمكن إيرادها لتفسير الأمر. الأول مرتبط بكون هذه الصحف وهي ناطقة باسم أحزابها إما أن تنظيماتها السياسية داخل حكومة مثل حزب الاتحاد الاشتراكي أو حديثة عهد بالتسيير من قبيل حزب التقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال وبالتالي فجرعة النقد تراعي ذاكرة المشاركة السياسية والمسؤولية الضمنية عن هذه المؤسسات.
وتجدر الإشارة أنه بالرغم من أهمية نتائج هذا البحث، إلا أنه يظل على غرار كافة البحوث في العلوم الإنسانية، عملا محدودا ولا يمكن تعميم نتائجه على كل المشهد الصحفي المغربي. فلا تمثل العينة المدروسة كل الطيف الإعلامي المغربي، ولا تشكل سوى جزء من المشهد الإعلامي المغربي كما أن البحث لم يشمل الصحف الفرنكفونية. واعتمدنا فقط على متغيري الحزبية وغير الحزبية في اختيار عينة الدراسة في حين أن هناك متغيرات أخرى يمكن إدماجها من قبيل تاريخ التأسيس، والنموذج الاقتصادي للمؤسسات الصحفية، طبيعة الفاعلين المؤسسين والمالكين للمؤسسة أو المساهمين في رأسمالها، وعدد العاملين بها، والدعم الذي تحصل عليه وغيرها. ولذلك، تبقى هذه النتائج نسبية، وإن حاولنا من خلال بناء أدواتنا البحثية الانضباط للصرامة المنهجية، إلا أن الأمر ليس باليسير خاصة وأننا ندرس موضوعا يتكلم، حيث يتداخل الموضوعي والذاتي.