حسن أوريد: مابعد مونديال قطر؟ .. الحديث عن المونديال قبل أن ينعقد، هو غيره وهو يجري، وهو غيره بعد إذ انفضّ.

0
226

الحديث عن المونديال قبل أن ينعقد، هو غيره وهو يجري، وهو غيره بعد إذ انفضّ.

ذلك أن الحديث اليوم ينطلق من معطى موضوعي، وهو نجاحه. ليس ذاك فحسب، بل هو أنجح دورة بشهادة العارفين والمسؤولين والمتتبعين، من حيث النوع والكم على السواء. كانت الدورة التي حازت أكبر عدد من المتفرجين، تجاوز ثلاثة ملايين ونصف مشاهد، عدا من كانوا يتابعون بالتلفزيون، وكانت أعلى نسبة ملء المدرجات تتراوح ما بين 96 في المئة، وكانت أكثر دورات المونديال أمناً (وهو أمر مهم، بل الأهم)، وتنظيماً، ومتعة، وحُسن وفادة وكرم ضيافة.

ومع ذلك لم يسلم مونديال قطر، وهو تظاهرة رياضية بالأساس، من أحكام خارجة عن الرياضة، أغلبها أحكام قيمة وتحامل، ومزج غير بريء للثقافة والسياسة والزعم بالدفاع عن حقوق الإنسان، بل صدام الحضارات..

المعيار الأساسي لقياس مونديال قطر هو هل وفَّت قطر بما التزمت به، أمام الفيفا، وأمام العالم، فيما يخص تظاهرة رياضية؟ وهل كانت في مستوى التظاهرة؟ وهل وفّرت الأمن، والسكينة لمرتادي المباريات؟ وهل قدّمت الظروف الملائمة للفرق المتبارية؟ هذا هو المعيار الأساسي لتقييم المونديال، وما عداه، فتاريخ كما يقول الأمريكيون، وأدب كما يقول الفرنسيون، أو غثاء كغثاء السيل كما في اللغة العربية. (ترون كيف أننا نعبر عن فكرة بأساليب مختلفة، وفق خصوصية كل ثقافة).

كان سيعاب على قطر لو أنها لم توفر الأمن والسكينة والظروف الملائمة للمشاركين والمتفرجين، أو أن تبدل أن تغير في قواعد لعبة كرة القدم. وليس في وارد أن تغير دولة تستضيف المونديال من ثقافتها وقيمها ونظامها. إذ الغاية بالأساس للتظاهرات الرياضية، ليس التباري فقط، وإنما اكتشاف ثقافات مغايرة، وتجسير الهوة بين الثقافات والأجناس والأمم، وليس التباري إلا ذريعة. وتبدأ أزمة الحضارات حينما تختلط الغاية والوسيلة، وتبلغ أشدَّها، حينما يبرر انعدام الغاية الوسيلة.

المونديال كما يدل عليه اسمه هو تظاهرة عالمية، بكل ما يعتور العالم من ثقافات وحضارات وقيم. ولا يمكن أن يُنعت بمونديال لو هو اقتصر على حضارة معينة، وثقافات مخصوصة، وأمم معلومة، ولذلك أن ينعقد المونديال في دولة لها ثقافة غير ثقافة الغرب، أمر ينسجم مع منطوق المونديال والغاية منه.

لكن مونديال قطر تعرض لحملة انتقادات لا علاقة لها بالرياضة، قبل المونديال وأثناءه وبعده. أقول انتقادات تجاوزاً، لأنها إلى التحامل أقرب.

لا يمكن إلا شجب مواقف وتصرفات لا علاقة لها بالرياضة. فالمونديال ليس هو الساحة للدفاع عن “حقوق المثليين”، وإقحامهم هو إساءة للتظاهرة، وزمُّ الشفتين لفريق قبل أن يخوض غمار المباراة، استنكاراً منه لما يعتبره إساءة لحرية التعبير، وتحايل مسؤول يخفي شارة محرمة ليظهرها بعدها، وهي قضايا لا ينبغي أن تمر مرور الكرام، وينبغي لاحقاً زجر كل التصرفات التي تُخرج تظاهرة رياضية عن سياقها، وتزج بها في قضايا ذات طبيعة سياسية، أو خلافية، أو عقدية. وكما تطورت قواعد المونديال، بناءً على ما بدا اختلالات في اللعب، ينبغي زجر كل ما يسيء للطابع الرياضي للمونديال.

ينبغي التعاطي اليوم مع الانتقادات بأناة، وبغير اندفاع ولا رغبة في السجال..

لا يسوغ الوقوف عند ما هو تحامل صُراح، وزيغ بيّن، بل عمى، أو تعامي، إذ كما يُقال كل ما يطبعه الغلو، فلا يستحق أن يقف المرء عنده. مقارنة رقصات لاعبين مغاربة وأمهاتهم بالقردة، كما فعلت قناة دنماركية، أو نعت رفع السبابة، بالداعشية، أو اعتبار إسبال العباءة على ميسي في الاختام أمراً مؤلماً يثير المغص، كما ورد في قناة ألمانية، أشياء لا تستحق أن يقف عندها المرء، وتسيء لمن يقول بذلك أكثر مما تسيء لمن هو موجه له.

النقد ينبغي أن ينصرف للقيم، أو ما يُزعم أنه قيم. فمن أهم ما يقوم عليه العالم الحديث، وقاطرته الغرب، هو الموضوعية، فلا يسوغ الحكم من دون معرفة عميقة، ومن دون النظر إلى ظاهرة أو حدث، من زوايا متعددة، والغرب يقوم على حقوق الإنسان، ومنها حقوقه الثقافية، والغرب يقوم على التنوع الثقافي، واحترامها، ومن عناصر العالم الحديث النقد، والنقد طبعا ليس هو التحامل.. وحرية التعبير ليست هي التحايل، ويمكن الرد بيسر أن كثيراً من تخرصات بعض من المعلقين الغربيين، لا تأتمر بالقيم الغربية، أو إن شئنا القيم الكونية، فبعض من أحكام “صانعي الرأي” تصدر عن جهل، وهي لا تقيم وزناً لحقوق الإنسان، إلا مجتزَأة، ولا للتنوع الثقافي، إلا من منظورها، وهي لا تخضع لما يفرضه النقد من موضوعية ومعرفة دقيقة وعميقة. ومن أهم ما يرفعه الغرب حقوق الإنسان، وليس من حقوق الإنسان تشبيه إنسان بالحيوان، إذ الأمر أشد وأمرّ من العنصرية. العنصرية هو تميز جنس على جنس، أما تشبيه إنسان بحيوان، فهو نزعه من إنسانيته. واجتزاء حقوق الإنسان في جانب، أو لفئة، ليس من حقوق الإنسان في شيء.
إن وقفة التروي، تفترض كذلك عدم الانسياق في السجال، أو الأحكام الجزافية، بل الحكم عن معرفة. وأحوج ما نحتاجه اليوم ثورة ثقافية تكون الجامعة مدارها، تقوم على المعرفة الموضوعية، والنقد البناء، والحوار المثمر، وحسن الإصغاء.. وبالأخص في العلوم الإنسانية.

هذا هو الرهان، وليس السجال. ولا عيب أن يكون للمرء كما للمجتمعات عيوب، ولكن العيب كل العيب، هو ألا يأخذ بها من يُصدر الأحكام، وليس أقل منه عيباً من لا يستمع للنقد، ويرفض أن يراجعه. والنقد مرة أخرى ليس هو الأحكام الجزافية، أو المسبقة ولا التحامل. ولنا في الصين أسوة، حينما بدت بعد الألعاب الأولمبية لسنة 2008، في صورة جديدة، كانت منطلقاً لهبّة فرضت احترام العالم.

 

 

 

عن الغعربي بوست