بعد سنوات من توالي المطالب من قبل “العلمانيين” بإصلاح قوانين الأسرة في المغرب، وجّه الملك محمد السادس، الثلاثاء الماضي، الحكومة إلى إعادة النظر في “مدونة الأسرة”، ومنحها ستة أشهر كمُهلة من أجل رفع المقترحات، وذلك قبل إعداد الحكومة لمشروع قانون في هذا الشأن، وعرضه على البرلمان للمصادقة..فيما أسند الملك المفدى “الإشراف العملي على إعداد هذا الإصلاح الهام، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع”.
يحمل الملك في المغرب صفة “أمير المؤمنين”، وهو وحده المخول دستورياً بالجمع بين صلاحيات دينية وسياسية. ويمارس الملك سلطاته الدينية بواسطة ظهائر (مراسيم ملكية).
على الرغم من ذلك، لا تصنف المملكة المغربية على أنها دولة دينية. ويوجد فيها علمانيون يحملون تصورات مختلفة لعلاقة إمارة المؤمنين كمؤسسة دينية بالعلمانية التي يطالبون بها. بعضهم لا يتصور أي توافق بين المؤسستين، فيما يقترح آخرون صيغاً خاصة للتعايش.
كيف يمكن الحديث عن العلمانية في بلد تحكمه إمارة المؤمنين ويجمع فيه الملك بين الصفة الدينية والسياسية؟
بعد 19 سنة على دخول “مدونة الأسرة” المغربية حيّز التنفيذ، وبعد التوجيهات الملكية الأخيرة، باتت الحكومة تُسابق الزمن من أجل مراجعة القوانين ومواكبتها بالتقييم والتقويم لمعالجة النقائص التي أبانت عنها التجربة منذ عام 2004؛ وهو ما دفع لانعقاد أول اجتماع تنسيقي، الأسبوع الجاري، بين وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة الفضائية، محمد عبد النبوي، ورئيس النيابة العامة، لحسن الداكي، بمقر أكاديمية المملكة المغربية، للإشراف العملي على إعادة النظر في مدونة الأسرة، بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الملف.
ويأتي هذا الاجتماع في إطار تنزيل مضامين الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة المتعلقة بإعادة النظر في مدونة الأسرة، تفعيلا للقرار الملكي الذي أعلن عنه الملك في خطاب العرش لسنة 2022.
وقال وزير العدل عبد اللطيف وهبي في تصريح للصحافة، بالمناسبة، إن هذا اللقاء يعد الأول بعد الاجتماع مع رئيس الحكومة، والذي تم خلاله التهييئ للاجتماعات المقبلة لتنظيم وتوزيع العمل، مبرزا أنه سيتم الشروع ابتداء من يوم الجمعة المقبل في العمل على هذا “المشروع الكبير الذي تبناه جلالة الملك، لاسيما وأن جلالته يعتبر موضوع الأسرة من القضايا الكبرى”.
وأضاف وهبي “سنستمع للقوى المدنية، وللمسؤولين الحكوميين، وسنحاول أن نصغي للجميع لكي نتفق على مجموعة من التغييرات”.
من جهته، أكد محمد عبد النباوي، أن الملك “تفضل بتشكيل هذه اللجنة من أجل مراجعة مدونة الأسرة التي مضى على العمل بها 20 سنة، وهي مدة كافية من أجل الوقوف على الاختلالات التي تواجه الأسرة”.
وأشار عبد النباوي، إلى أن اللجنة شرعت في مهامها مباشرة بعد تبليغها من طرف رئيس الحكومة بالرسالة الملكية، ووقفت بذلك على المفاهيم والتوجيهات التي تتضمنها.
وأضاف أن اللجنة بدأت الاشتغال على أساس تحديد طريقة العمل، وكيفية الاستماع لمختلف الأطراف ذات الصلة، وأيضا من أجل إجراء المشاورات اللازمة بالشكل الذي أمر به الملك، أي بـ”شكل مكثف، ووثيق وموسع”.
وأفاد بأنه ابتداء من الأسبوع المقبل ستباشر اللجنة الاستماع لبعض الأطراف، على أن تستمر هذه العملية في الفترة المقبلة، معربا عن أمله في أن “تتكلل هذه الجهود بالنجاح حتى نكون عند حسن ظن جلالة الملك، وتقديم مقترحات كفيلة بتنزيل مدونة جيدة تكون في مستوى تطلعات الأسرة المغربية”.
كما عبر عن الأمل في أن تقوم جميع الأطراف المعنية بـ “موافاتنا بكافة المقترحات التي تشغل بالها “.
من جهته، أبرز الحسن الداكي، أن اجتماع هذه اللجنة، تهدف إلى إصلاح مدونة الأسرة وإرساء الخطوط العريضة التي تنبني عليها.
وأشاد الداكي بالمبادرة الملكية الرامية إلى إعادة النظر وتعديل وإصلاح مدونة الأسرة، لما لها من أهمية قصوى في الحفاظ على كيان الأسرة سواء المرأة أو الطفل، مشددا على أهمية هذه الخطوة “بعد مرور عقدين من الزمن على دخول مدونة الأسرة الحالية حيز التنفيذ”.
ونو ه الداكي بتجسيد آلية التعاون والإشراك المؤسساتي بين مختلف الهيئات المعنية بملف الأسرة “لكي نستمع وننفتح على مختلف الفعاليات، وننصت لكل مكون من مكونات المجتمع له رأي في هذا التوجه العام “.
وكان المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (مؤسسة رسمية) قد انضمت في شكل ملفت للنظر إلى الحركة النسائية والحقوقية، حيث قال، في رأي أصدره بمناسبة اليوم العالمي للمرأة بتاريخ 8 آذار/ مارس 2022: “آن الأوان لمراجعة مدونة الأسرة، بما يتلاءم مع مقتضيات الدستور ومضامين الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، وبما ينسجم مع طموحات تحقيق التمكين للنساء المغربيات، وتعزيز المساواة بين الجنسين المعبر عنها في النموذج التنموي الجديد”.
ولفت المجلس إلى أنه “لا يمكن تحقيق المساواة بين النساء والرجال، وضمان المشاركة الكاملة للمرأة في جميع مناحي الحياة العملية دون إطار قانوني منسجم مع طموحات البلاد، يضمن للمرأة التمتع بحقوقها كاملة دون أدنى تمييز”.
وأشار المجلس، آنذاك، إلى أن أبرز الإشكالات والاختلالات التي تعرفها مدونة الأسرة في صيغتها الحالية هي: التمييز على مستوى الولاية على الأطفال، حيث “لا يسمح للأم بالولاية على أبنائها”، وهو ما “يتعارض مع مبدأ تقاسم المسؤوليات الأسرية بين الزوجين، ولا سيما تلك المتعلقة بالأطفال، كما أن هذا المقتضى يؤثر سلباً في إعمال حقوق وواجبات الوالدين المنفصلين تجاه أطفالهما عندما تستمر الخلافات بينهما، بالإضافة إلى ذلك، فإن زواج المرأة طالبة الحضانة يُسقط عنها حق حضانة الأطفال إلا في حالات خاصة”.
وعبرت مجموعة من المنظمات الحقوقية عن ترحيبها بالخطوة التي “طال انتظارها”، حيث حمَلت على مدى السنوات الماضية مطلب “التغيير الجذري” لبنود المدونة بشكلها الحالي، بأهداف تعزيز دور المرأة داخل الأسرة ومنحها حقوقا جديدة، فضلا عن دعواتها لمواكبة تغيرات المجتمع والالتزامات الدولية التي صادقت عليها المملكة، إضافة إلى إخراج المرأة من “الوصاية والعنف الذكوري” نحو المساواة الفعلية مع الرجل.
في هذا الجانب، تقول رئيس جمعية التحدي للمساواة والمواطنة، بشرى عبدو، إن البلاغ الملكي يمثل “لحظة مهمة” من أجل إخراج قانون أسرة جديد إلى حيز الوجود، بشكل يستجيب للحاجيات الآنية للنساء، ويتجاوز كل الاختلالات والسلبيات التي كشفت عنها التجربة السابقة لتطبيق المدونة.
من جهتها، تقول الحقوقية المغربية البارزة، فوزية العسولي، إن الخطوة الأخيرة “تبقى إيجابية” من أجل فتح نقاشات واسعة لمناقشة الإشكالات التي شابت تطبيق المدونة السابقة وأيضا الاختلالات التي حملتها في طياتها منذ إخراجها.
وتوضح الفاعلة الحقوقية في تصريح صحفي، أن الحركة الحقوقية بالمغرب وقفت على عدد من الإشكالات كرست التمييز وألحقت الضرر بالنساء والأطفال، ولم يعد مسموحا أن تستمر في ظل التطورات الاجتماعية والثقافية التي عرفها المجتمع المغربي.
عاد الاختلاف في النقاش العمومي، بين من يُطالبون بقوانين تلائم مُقتضيات الشريعة الإسلامية، وبين من يشيرون إلى ضرورة تحديثها، وفتح المجال إلى الفئات الأخرى المُعلنة بكونها لا مسلمة ولا يهودية، خاصة فيما يخص مسائل الإرث وتزويج القاصرات والعلاقات الرضائية والولادات خارج مؤسسات الزواج، والولاية على الأبناء، ومسطرة الصلح، ومساطر النفقة والطلاق.
وفي الوقت الذي تُسابق فيه الحكومة المغربية الزمن من أجل تعديل قانون مدونة الأسرة، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بمجموعة متسارعة من المنشورات المختلفة، التي تشير إلى تعديلات جارية، آخرون يؤكدون على إقرارها، في شيء يصفه المُراقبون للشأن الوطني بـ”إنذار لخطورة الأخبار الزائفة، ونشر الأكاذيب التي قد تؤثر سلبا على الأسر المغربية، وكذا على الشباب المقبلين على الزواج في الفترة الراهنة”.
وفيما يتعلق بأبرز المطالب التي تنادي بها جمعية التحدي والمساواة في التعديلات المرتقبة، تشدد الناشطة الحقوقية، بشرى عبدو، على ضرورة “مراجعة لغة المدونة وحذف المصطلحات والعبارات التي من شأنها أن تكرس الصور النمطية لمهام وأدوار الرجال والنساء”، بالإضافة إلى “إلغاء جميع حالات الاستثناء التي تسمح بتزويج الطفلات، وبتعدد الزوجات”.
ومن بين مطالبات الجمعية، بحسب المتحدثة ذاتها، إثبات النسب، مع النص على اعتماد الخبرة الجينية كأداة لإثباته، وحضانة الأبناء مع إعطاء الحق في الزواج للأم الحاضنة، والمساواة في الولاية القانونية على الأبناء، وإعادة النظر في النفقة في حالة حل ميثاق الزوجية، فضلا على تقسيم الممتلكات مع جعل وثيقة اقتسام الممتلكات من الوثائق الضرورية لاستكمال ملف الزواج وشرط منصوص عليه في عقد الزواج.
وتتقاطع المذكرة المطلبية لجمعية التحدي والمساواة في عدد من النقاط مع نظيرتها التي تحملها عدة هيئات حقوقية مغربية أخرى، مثل فيدرالية رابطة حقوق النساء، الائتلاف الحقوقي الذي يجمع عشرات الجمعيات الفاعلة في مجال الدفاع عن حقوق النساء بالمغرب.
وتدعو الفيدرالية من جانبها، إلى “ضرورة توحيد القوانين المطبقة وطنيا، بشأن قضايا الأسرة وإغلاق الباب أمام الأعراف التي تكرس الدونية وتشرعن الحيف في حق المرأة والقاصرات”، وفق ما كشفته، الفاعلة الحقوقية، نجية تزروت.
وتطالب الفيدرالية أيضا، بحسبما كشفته تزروت في حديثها لموقع “الحرة”، بإلغاء جميع المقتضيات التي تحرم المرأة من حقها في الولاية القانونية على أبنائها القاصرين، إضافة إلى النص على أن الولاية على الأبناء أثناء قيام العلاقة الزوجية تكون للزوجين معا، وفي حالة تواجد نزاع، اللجوء إلى القضاء الاستعجالي لتحقيق المصلحة الفضلى للطفل. وجعل الولاية حقا للحاضن سواء كان زوجا أو زوجة، بعد انفصال العلاقة الزوجية. وتوضح الإدريسي، في حديثها لـ”عربي21″، أنه “ليس للمرأة المغربية الآن، الحق في استخراج جواز سفر أو السفر بأطفالها خارج المغرب دون موافقة كتابية من الأب والعكس غير صحيح، وفي حالة غياب الأب وتخليه عن رعاية أطفاله تمر الولاية من الأب إلى قاضي الأسرة” مشيرة إلى أن هذا الأمر يأتي بعد مصادقة المغرب على عدة قوانين دولية، ورفعه التحفظات على اتفاقية سيداو.
على خلفية ما تصفها بـ”الثغرات في مقتضياتها”، تُطالب العديد من الجمعيات النسائية والحقوقية في المغرب، بتغيير شامل لمدونة الأسرة، وليس فقط في عدد من المواد القانونية البارزة.
كــ”المادة 173 تحرم الأم من الزواج مرة ثانية، فيما تعطي للأب حق إسقاط الحضانة على الأم لمجرد أنها قد تزوجت، والعكس غير صحيح، فيما تحرم المادة 148 من نفس المدونة، المرأة في حقها من إثبات نسب طفل حملت به خارج إطار الزواج أو حتى في حالات الاغتصاب، حيث إنها تُواجه إثر ذلك بتهمة الفساد، وفي غياب إمكانية القيام باختبار الحمض النووي لا تكون أي متابعة للأب”.
و “المادة 20 التي تُمكن من تزويج القاصر بتقديم طلب للمحكمة، والاستثناء أصبح قاعدة”، مشيرة إلى أن طلبات إذن تزويج القاصرات في العام 2020 وصلت إلى 20 ألفا، مما جعل عدد من الآباء يسعون إلى تزويج بناتهم دون إذن من القاضي، وبدون أن يكون قد ارتكب جرما”.