قراءة تحليلية في مفارقات المدينة التي تسكن الذاكرة وتُخفي الهامش بقلم: عبد السلام فزازي
حين تُذكر باريس، لا يخطر في البال سوى أضوائها الخالدة، برج إيفل، الشانزليزيه، مقاهي مونمارتر، وصور الثقافة الأوروبية الرومانسية. لكن ماذا عن الوجه الذي لا يُعرض في نشرات الأخبار، ولا يُكتب عنه كثيرًا؟ ذاك الذي لا يمر عبر عدسات السيّاح، بل يسكنه المهاجرون، ويعيشه أبناء الضواحي، ويصطدم به كل من يحاول أن يحيا كفرد “متساوٍ” في جمهورية تدّعي “الحرية والمساواة والأخوة”.
باريس كما لم تُكتب: مدينة بواجهتين
لعلنا نُخطئ حين نحصر باريس في رمزيتها الثقافية، دون التوقف عند الفجوات العميقة التي تفصل بين “عاصمة الأنوار” وواقع بعض من أحيائها. الكاتب هنا لا يسقط في فخّ التهويل، لكنه يكتب من داخل التجربة، من نافذة تطلّ على البرج من حي بورغون الراقي، بينما تختزن الذاكرة زيارات لضواحٍ منسية، يسكنها “الأقليات” والمهاجرون، ويصطدمون يوميًا بجدران اللامساواة.
فما الذي يجعل مدينة في قلب أوروبا تُقسم طبقيًا بهذه القسوة؟ وأين اختفت الوعود الجمهورية في أحياء مثل مونتروي، سان دوني، أو كليشي سو بوا؟
بين التهميش والاحتجاج: الضواحي كمرايا لخيبة المشروع الفرنسي
تعيدنا الضواحي – أو ما يُعرف بـ”البانليو” – إلى أسئلة الحرمان والتوتر والتناقض. أماكن لا تغطيها السلطة إلا عند الحاجة الأمنية أو الإعلامية. هناك حيث تتكدس البطالة، وتتراجع جودة التعليم، وتغيب المرافق الأساسية. هناك حيث تُخلق مشاعر الغربة داخل الوطن. وهناك أيضًا تنشأ، بالمقابل، حالات الغضب والاحتجاج، لا كرفض للاندماج، بل كرد فعل على إقصاء ممنهج.
هل تُصبح هذه المناطق خزّانًا انتخابيًا مهملًا، لا يُستشار إلا في لحظات التوتر؟ وهل المبالغة في ربطها بالعنف والتطرف مجرد وسيلة سياسية لتبرير الفشل الاجتماعي؟
فرنسا والاختبار الأخلاقي: الهوية المهددة أم الديمقراطية المُنتقاة؟
في الوقت الذي يُشهر فيه الغرب خطاب الحريات وحقوق الإنسان، تواجه فرنسا تناقضاتها في المرآة: كيف ترفع شعار العلمانية، بينما تُمارس رقابة رمزية على الحجاب؟ كيف تدّعي المساواة، بينما تُقصي مواطنين فقط لأن أسماءهم “ليست فرنسية بما يكفي”؟ كيف تهاجم “الانعزالية الإسلامية”، بينما تعزز بالسياسات نفس الانعزال المجتمعي؟
إنها مفارقة لا تُحسم بالنقاشات التلفزيونية، بل تتطلب إعادة بناء المشروع الجمهوري برمته، على أساس الاعتراف أولاً بالمشكل، وليس إنكاره أو تغليفه بلغة “القيم الفرنسية”.
كلمة أخيرة من كاتب لا يكتب من الخارج
عبد السلام فزازي لا يكتب من منفى لغوي، بل من موقع شاهِد – وربما مشارك – في الحكاية. يراقب من علو البرج الساطع، لكنه لا ينسى أحياء الظل. يستعيد أغنية عبد الوهاب الدكالي “مونبارناس” كوثيقة فنية لما لا تقوله النشرات.
ويعيد للكتابة دورها الأساسي: السؤال، ثم السؤال، ثم مساءلة السؤال.
هل نحتاج إلى باريس جديدة؟ أم فقط إلى عدالة قديمة لم تتحقق بعد؟