عندما تصبح الرمزية الدينية ورهانات السيادة رهينة تصرفات فردية: هل يحتاج ملف مليلية إلى إعادة تقييم شاملة؟
في خضمّ صدمة الإعفاءات المتتالية التي مست كبار رجال الإدارة الترابية، على خلفية مخالفتهم للتوجيه الملكي بشأن عدم ذبح الأضاحي هذه السنة، جاء الجدل الجديد حول العامل عمر الفونتي، المعروف بـ”عمر دودوح”، ليكشف عن أوجه خلل أعمق مما قد يبدو عليه الأمر في الظاهر. فالقضية هذه المرة ليست مجرّد خطأ إداري أو خروج عن البروتوكول، بل مسألة ترتبط مباشرة بمكانة إمارة المؤمنين، وبحساسية العلاقة بين السيادة المغربية والوجود الإسباني في مدينة مليلية المحتلة.
الحدث: شعيرة دينية تتحول إلى دعاية شخصية
ما أثار هذا الجدل هو ما وصفه يحيى يحيى، السياسي المعروف ورئيس جماعة بني انصار سابقاً، بـ”التجاوزات الخطيرة” التي ارتكبها دودوح خلال إشرافه على توديع حجاج مدينة مليلية المحتلة، إذ اتهمه بـ”تحويل شعيرة الحج إلى مناسبة للدعاية الذاتية”، بل وتقديم “تصريحات شعبوية” لا تليق بممثل الدولة، مستحضراً ماضيه المثير للجدل، حين تفاخر – بحسب نفس المصدر – بانتمائه للحزب الاشتراكي الإسباني وولائه للسلطات الإسبانية.
لكن الأكثر إثارة للانتباه في هذا السياق، هو ما ورد على لسان العامل أمام الحجاج، حين اعتبر نفسه “أول من عبّر جهراً عن دعمه للقضية الفلسطينية”، في تجاهل – وصفه يحيى – بـ”المتعمد” للدور الريادي للمغرب، وخصوصاً الملك محمد السادس، بصفته رئيس لجنة القدس، في نصرة هذه القضية عبر مختلف المحافل الدولية.
السؤال المركزي: من يمثل الدولة في مناطق السيادة الرمادية؟
إن هذا الحادث يعيد طرح سؤال التمثيل الرمزي والسياسي للدولة المغربية في المدن المحتلة، خاصة حين يتعلق الأمر بمناسبات دينية ذات بعد سيادي، مثل الحج. كيف يمكن لموظف إداري أن يحتكر رمزية تمثيل المغرب في سياق بالغ الحساسية، ويزاحم الدولة نفسها في أدوارها؟
وإذا كانت وزارة الداخلية حريصة – كما أظهرت الإعفاءات الأخيرة – على ضبط الإطار السلوكي لرجال السلطة، فإن التساؤل المشروع اليوم هو: هل ينطبق هذا المعيار على جميع رجالات الدولة، أم أن لبعضهم استثناءات غير معلنة؟
سياق دولي ومحلي لا يحتمل التراخي
يأتي هذا الجدل في وقت تتزايد فيه الضغوط الدولية على المغرب في ملفي سبتة ومليلية، وفي ظل تصاعد الخطاب اليميني المتشدد في إسبانيا، الذي لا يخفي نواياه التوسعية. فهل من الحكمة أن يُترك تمثيل المغرب في هذه الجبهات المعقدة لأشخاص لا يقدّرون رمزية الموقع، ولا دقّة التوازنات؟
حسب تقرير صادر عن مركز “كارنيغي” للأبحاث (2023)، فإن إدارة الملفات الحدودية في الدول ذات السيادة المعقدة تتطلب وضوحاً في الرؤية، وتجانساً في الخطاب الرسمي، وتناسقاً في سلوك الممثلين الميدانيين. والسؤال هنا: هل يتحقق ذلك في حالة الفونتي؟
سيرة مثقلة بالجدل: الصمت المريب لوزارة الداخلية
ما يزيد من تعقيد الصورة هو أن دودوح ليس جديداً على الجدل. ففي عام 2011، رفض مغادرة مليلية خلال فترة الانتخابات رغم صدور أوامر وزارية، ووفقاً لجريدة “إلباييس” الإسبانية، فقد اتُّهم حينها بخدمة طرف سياسي على حساب أطراف أخرى. وفي سنة 2020، مرّر مجلس جماعة بني انصار قراراً بتسمية شارع باسمه، دون أي اعتراض من الداخلية، رغم أن ذلك يمثل حالة غير مسبوقة لموظف لم يغادر بعد سلك الوزارة.
ألا يشير هذا إلى تراخٍ مؤسساتي في مراقبة السلوك الإداري والسياسي لبعض الموظفين؟ وأين تتجلى مفاهيم ربط المسؤولية بالمحاسبة التي أكّد عليها الخطاب الملكي أكثر من مرة؟
في العمق: إمارة المؤمنين ليست شأناً رمزياً فقط
حين يتحدث يحيى يحيى عن “المساس بأدوار إمارة المؤمنين”، فهو لا يستخدم لغة سياسية فحسب، بل يضع يده على جوهر المعادلة المغربية في إدارة التنوع والوحدة الوطنية. فالملك، بصفته أميراً للمؤمنين، ليس مجرد شخصية دينية، بل هو الضامن لوحدة المغاربة في الداخل والخارج، في الرباط كما في مليلية. وبالتالي، فإن اختزال هذا الدور في شعارات شعبوية أو احتكار تمثيلي، يُعد تهديداً لبنية التوازن الوطني.
خاتمة مفتوحة: هل يُفتح هذا الملف على أعلى مستوى؟
أمام تكرار الأخطاء واستمرار الصمت، يبقى السؤال الأهم: هل تملك الدولة الجرأة لمراجعة هذا النوع من التمثيليات؟ وهل يمكن للمؤسسات أن تُعيد ضبط قواعد التعامل مع ملفات السيادة الرمزية والميدانية في المناطق الخاضعة لتوازنات دقيقة؟
الجواب ليس في يد وزارة الداخلية فقط، بل في يد الرؤية الشاملة التي يؤسسها المغرب لوحدته الترابية ومكانة ملكيته كضامن للتماسك الوطني والديني والدستوري.