في صمت تام، وبدون صخب سياسي أو تسريبات إعلامية، صدر الحكم القضائي بحق محمد بودريقة، الرئيس السابق لنادي الرجاء البيضاوي، والبرلماني السابق عن حزب التجمع الوطني للأحرار، بالسجن النافذ لخمس سنوات، مع غرامة مالية تفوق 650 ألف درهم، ومنع من إصدار الشيكات لسنة، في ملف ثقيل يضم تهمًا تتعلق بإصدار شيكات بدون مؤونة، والنصب، والتزوير في محرر عرفي، والتوصل إلى وثائق إدارية بغير وجه حق.
ورغم نفي المعني بالتهم المنسوبة إليه، وادعائه أن الخبرة التقنية على الوثيقة محل النزاع لم تُنجز، فإن الحكم صدر باسم القانون، واستند إلى مسطرة امتدت لشهور، بدأت بتوقيفه من طرف السلطات الألمانية في يوليوز 2024، بمطار هامبورغ، بناءً على مذكرة بحث صادرة عن الشرطة الأوروبية “يوروبول”، وانتهت بتسليمه للسلطات المغربية.
لكن السؤال الأعمق الذي يطرح نفسه هنا: هل هذا الحكم القضائي هو مجرد تنفيذ لمساطر قانونية معزولة؟ أم أن الدولة، التي لطالما اتُّهِمت بغضّ الطرف عن شخصيات سياسية ورياضية نافذة، بدأت تُطلق رسائلها بلغة جديدة، هادئة لكنها صارمة؟
بودريقة.. من صعود رياضي إلى سقوط سياسي
يمثل بودريقة نموذجًا لما يمكن تسميته بـ”العبور السريع من الرياضة إلى السياسة”. صعد بقوة بفضل رئاسته لنادي الرجاء البيضاوي، أحد أكبر الأندية المغربية، قبل أن يحجز لنفسه مقعدًا في السياسة، ثم في رئاسة مقاطعة مرس السلطان بالدار البيضاء، تحت يافطة حزب حكومي.
لكن هذه المسيرة لم تدم طويلًا. فسرعان ما وجد نفسه في مواجهة تهم ثقيلة، مع غياب شبه كلي عن مهامه كرئيس مقاطعة، مما أدى إلى عزله، ثم إلى متابعته قضائيًا.
ما بين الحزم المؤسساتي وصمت الدولة
بعيدًا عن شخص بودريقة، تكمن أهمية هذا الحكم في كونه يُصدر ضد شخصية كانت محسوبة على دوائر المال والرياضة، وكان لها حضور حزبي في سياق سياسي لا يخلو من التساؤلات حول “الإفلات من العقاب”. ولعل صدور هذا الحكم، دون تسويق حكومي، أو توظيف سياسي، يعزز فرضية أن الدولة تتحرك في صمت، وتُراكم في اتجاه ترسيخ مبدأ “الربط بين المسؤولية والمحاسبة”، ولو بشكل انتقائي.
فهل نحن أمام بداية تحوّل فعلي في التعاطي مع قضايا الفساد والتلاعب المالي؟ أم أن الأمر يظل مرتبطًا بخصوصية هذا الملف وحده؟
القطيعة الرمزية: من هامبورغ إلى عنبر السجن
صورة توقيف بودريقة في مطار هامبورغ، ثم ترحيله، ثم الحكم عليه بالسجن، تُشكل لحظة فارقة، لا في مساره الشخصي فقط، بل في ما تحمله من رسائل ضمنية: مفادها أن الزمن الذي كان فيه المنصب يُحصِّن صاحبه، وربما يُبعده عن سلطة القضاء، بدأ يتلاشى.
وإذا أضفنا إلى ذلك تسارع المتابعات القضائية بحق عدد من المنتخبين، وبعض الرموز التي ظلت لسنوات محصّنة بحكم شبكاتها، يمكن قراءة هذه الأحكام في إطار أكبر: حالة “إعادة ضبط” المشهد الداخلي، لا بخطاب شعبي، بل بمنطق الدولة العميقة التي تفضل الصرامة في الكواليس، على الإثارة في العلن.
بين واجب الصحافة وسؤال الدولة
نحن في المغرب الآن، لا نحتفل بسقوط الأشخاص، ولا نبني مواقفنا على النكايات، بل نقرأ الأحكام القضائية كمرآة للمجتمع والدولة معًا. ونتساءل: هل يُشكّل هذا الحكم بداية لمرحلة سياسية جديدة، تُعلن فيها الدولة — ولو على مضض — أنها لن تحمي أحدًا بعد اليوم؟ أم أن “الرسالة وصلت” فقط، وأن الملف أُغلق بإخراج جيد لا أكثر؟
الجواب، كما العادة، ستُحدده الوقائع القادمة.
لكن، إلى حين ذلك، يبقى الحكم بخمس سنوات على محمد بودريقة لحظة رمزية، ومؤشّرًا على أن للدولة، حين تريد، أن تتحدث دون صوت، وبكثير من الدلالة.