من أزمة في التنفيذ إلى خلل في الفلسفة: قراءة في نقد بووانو لورش الحماية الاجتماعية
في لحظة مفصلية من تاريخ الإصلاحات الاجتماعية بالمغرب، تبرز أصوات تحذّر من انفصال الخطاب الحكومي عن واقع المواطنين، ومن بينها مداخلة النائب البرلماني عبد الله بووانو، رئيس المجموعة النيابية للعدالة والتنمية، التي كشفت، في ندوة صحفية بالرباط، عن سلسلة من “الاختلالات البنيوية” التي تعاني منها منظومة التغطية الصحية والحماية الاجتماعية، ليس فقط على مستوى الأرقام، بل على مستوى الرؤية والمؤسسات.
بووانو لم يكتف بعرض مؤشرات التراجع، بل طرح إشكالية جوهرية: هل نعيش انزياحاً تدريجياً نحو خصخصة الوظيفة الاجتماعية للدولة؟ وهل تفقد الدولة قدرتها على تحقيق أحد أعمدة تعاقدها مع المواطن: الحق في الصحة؟
بين التعميم والإقصاء: من يغطي من؟
رغم إعلان الحكومة بلوغ تعميم التغطية الصحية، تشير أرقام صادرة عن البنك الدولي – والتي استشهد بها بووانو – إلى أن التغطية لم تتجاوز 75% من الساكنة، في مقابل تصريحات رسمية تتحدث عن 100%. هذا التفاوت في الأرقام لا يعكس فقط خللاً إحصائياً، بل يكشف عن أزمة ثقة في المعطى الرسمي ذاته، وهي أزمة مقلقة في أي سياسة عمومية تتطلب تعبئة شعبية وتعاقداً اجتماعياً.
فما معنى أن يبقى 8.5 ملايين مغربي خارج التغطية؟ وكيف يُفسر هذا مع الإلغاء التدريجي لبعض البرامج الاجتماعية (كقانون تغطية الطلبة أو دعم الأرامل) دون تقديم بدائل فعالة؟
تحولات عميقة في تمويل الصحة: من الدولة إلى السوق
التحليل الذي قدّمه بووانو يكشف عن تحول لافت في تمويل البنية الصحية لصالح القطاع الخاص. ففي الوقت الذي تخصص فيه الدولة 19 مليار درهم من أصل 23 ملياراً للقطاع الخاص، تسجل المستشفيات العمومية معدلات ملء لا تتجاوز 40%، وتُوجّه معظم الفوترة (80%) إلى القطاع الربحي.
هنا يُطرح السؤال المركزي:
هل أصبح المواطن، دون أن يدري، يُموِّل بضرائبه قطاعاً صحياً لا يمكنه الولوج إليه؟
وهل نحن أمام هندسة مالية تُعيد إنتاج اللامساواة من بوابة “الإصلاح”؟
دواء أغلى… وصحة أكثر هشاشة
من المعطيات المثيرة التي قدمها بووانو، مقارنة بين أسعار 321 دواء في المغرب ونظيرتها في فرنسا أو بلجيكا. النتيجة: الأدوية المعوض عنها في المغرب أغلى بثلاثة إلى أربعة أضعاف.
ويزداد الوضع تعقيداً بغياب تحديث مرسوم الأسعار منذ 2013، واستمرار نظام فوترة خاص في القطاع الخاص، يُرغم المواطن على تسبيق مالي أو شيك ضمان، في ضرب مباشر لمبدأ “العلاج أولاً، ثم التسوية”.
عن الفساد في الصفقات… والاختيارات غير المعلنة
بووانو أثار قضية خطيرة، تتعلق بإلغاء صفقات رغم مرورها بجميع المساطر القانونية، وتركيز خدمات الحراسة والنظافة في شركات جهوية بعينها.
هنا لا نتحدث فقط عن فساد في الصفقات، بل عن احتكار لوجستيكي للخدمات الأساسية، يُغذي منطق الزبونية بدل الكفاءة، ويُفرّغ مفهوم “الإصلاح” من مضمونه الأخلاقي.
اختلالات الحماية الاجتماعية: تفكيك بلا تعاقد
في محور الحماية الاجتماعية، انتقد بووانو تأخر الحكومة في تنفيذ الالتزامات التي نص عليها القانون الإطار، لا سيما ما يخص تعويضات فقدان الشغل والتقاعد لخمسة ملايين مغربي.
والأخطر، في تحليله، هو التضخم غير المسبوق في الاقتراض لتمويل هذا الورش، من البنك الدولي، واليابان، والبنك الإفريقي.
هنا نواجه سؤالاً عميقاً: هل تتحول الدولة من مُوفّر للضمان الاجتماعي إلى مُقترض باسمه؟
وإذا كان تمويل الحماية الاجتماعية يتم بالدين، فهل يمكن الاستمرار فيه دون تهديد استقرار المالية العمومية مستقبلاً؟
الخلاصة: ما بين واجب الشفافية وحق المواطنين
أرقام الثقة التي أوردها بووانو تطرح تحدياً سياسياً حقيقياً:
-
71% يرون أداء رئيس الحكومة ضعيفاً،
-
65% لا يثقون فيه،
-
و68% غير راضين عن المصحات الخاصة.
وهذه الأرقام، وإن جاءت من معارضة، لا يمكن الاستهانة بها، لأنها تعكس فجوة حقيقية بين تطلعات المجتمع وما يتم تنزيله فعلياً على الأرض.
أسئلة للمستقبل:
-
هل نملك اليوم نموذجاً صحياً وطنياً أم مجرّد توازن هش بين العام والخاص؟
-
ما مصير ورش الحماية الاجتماعية في ظل هذا التمويل القائم على القروض؟
-
وكيف يمكن للدولة أن تستعيد دورها كضامن لا كمفوِّت؟