في مقال رأي حمل عنوان “الجدية مفتاح وطن لا يسير بسرعتين”، اختار الوزير السابق عزيز رباح أن يفتح ملف التنمية المجالية بالمغرب من بوابة خطاب العرش الأخير، حيث شدد الملك محمد السادس، بلغة واضحة، على رفض استمرار مغرب بسرعتين، وتفاوت صارخ بين مناطق استفادت من الاستثمارات الكبرى ومناطق لا تزال ترزح تحت الهشاشة والفقر والبنية التحتية الغائبة.
لكن ما بدا في الظاهر إعادة تذكير بمضامين الخطاب الملكي، ينطوي في العمق، وفق قراءة تحليلية، على رسائل غير مباشرة حول أعطاب التدبير المحلي والوطني، بل وقد يُفهم منه في بعض سطوره توجيه نقد صريح إلى مسؤولين على مستويات مختلفة، لم يكونوا في مستوى “الجدية” المفترضة لتنزيل النموذج التنموي الجديد أو حتى توصيات سابقة من أعلى سلطة في البلاد.
خطاب الجدية… وتكرار النكوص؟
رباح، المنتمي إلى الجيل الأول من وزراء ما بعد 2011، لم يخف انتقاده لسلوكيات داخل الإدارة والمؤسسات المنتخبة، عبر توصيفه المتكرر لما أسماه “اللاجدية”، سواء في اختيار المسؤولين، أو في تخطيط المشاريع، أو في تفويت العقارات والصفقات، أو حتى في مشاركة المواطن نفسه في خدمة الصالح العام.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ألم يكن هذا الوزير ذاته جزءًا من منظومة الحكم والتنفيذ لعشر سنوات على الأقل؟ وهل تمثل هذه الدعوة المتأخرة إلى “الجدية” نوعًا من النقد الذاتي الخجول، أم تصفية حساب سياسي مع نخبة صعدت إلى مراكز القرار بعد تراجع حزب العدالة والتنمية؟
الرسائل المشفّرة: من يقصد رباح؟
رغم أن المقال لم يسمّ أحدًا بالاسم، فإن صياغته جاءت بنَفَس واضح في توجيه الاتهام إلى من يعرقلون الاستثمار، ويتلاعبون بالصفقات، ويحولون دعم الدولة إلى مصالح انتخابية أو فئوية.
فحين يقول رباح: “لا يليق بهذا التوجه الملكي أن يتصدر المشهد منتخبون ضعفاء أو فاسدون”، فإنه يضع إصبعه على الجرح المفتوح الذي يشكّل تحديًا حقيقياً أمام أي إصلاح أو نهوض، وهو وجود نخب محلية غير مؤهلة، بل ومشبوهة في أحيان كثيرة.
وهنا يُطرح سؤال محوري: هل نحن أمام اعتراف من داخل “الدار” السياسية بأن الانتخابات تُفرز أحيانًا الأسوأ؟ وأن ضعف الحكامة ليس فقط نتيجة إكراهات بنيوية، بل أيضًا نتاج محاباة وفساد انتخابي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يتم التحرك لإصلاح المنظومة من داخلها حين كانت لدى هذه الأحزاب سلطة الفعل التشريعي والتنفيذي؟
مغرب واحد… أم مغرب بسرعتين؟
اللافت في خطاب رباح هو ترديد العبارة الملكية “لا مكان لمغرب يسير بسرعتين”، ما يدفعنا إلى التساؤل حول مغزى هذا التشديد المتكرر. هل هو تحذير من فقدان الثقة بين المركز والهامش؟ أم إقرار ضمني بأن سياسات الدولة طيلة سنوات – بما فيها حكومات رباح نفسه – لم تنجح في ردم الهوة بين الرباط والراشيدية، بين الدار البيضاء والدرويش، بين طنجة وتاونات؟
وإذا كان الجواب نعم، فهل الجدية وحدها كفيلة بتقليص الفوارق المجالية، أم أننا أمام حاجة إلى “صدمة إصلاحية” أعمق تشمل النخب، والميزانيات، ونظام توزيع الثروة والموارد؟
المواطن… جزء من الحل أم جزء من الأزمة؟
من الجمل اللافتة في المقال، دعوة رباح للمواطن بالتحلي بالجدية أيضًا، والالتزام بالقانون، ومحاربة الغش، والمساهمة في الإصلاح. وهنا قد يشعر بعض القراء بشيء من “التمرير” للمسؤولية نحو القاعدة، رغم أن مشاكل الفساد والزبونية وسوء التسيير تأتي من الأعلى غالبًا.
هل نحن أمام محاولة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي؟ أم أمام خطاب سياسي مألوف يسعى إلى إشراك المواطن في تحميل مسؤولية فشل البرامج؟
خلاصة تحليلية
مقال عزيز رباح هو بلا شك قراءة ناضجة في مضمون خطاب العرش، لكنه يتجاوز التنويه بالتوجيهات الملكية نحو نقد مبطن لوضع سياسي ومؤسساتي يعيش على وقع التفاوت، وغياب النزاهة، ورداءة النخب.
وإذا كانت الجدية هي مفتاح مغرب الإنصاف والتنمية، فإن أولى بوادرها يجب أن تبدأ بإعادة النظر في من يقود التنمية على الأرض، لا بالشعارات، بل بالنتائج، ولا بالنيات، بل بالمحاسبة.