رحيل أحمد الزفزافي: جنازة تحيي نقاش الريف والمصالحة الوطنية

0
187

رحل أحمد الزفزافي، والد ناصر الزفزافي، قائد حراك الريف المعتقل منذ 2017، عن عمر ناهز السبعين، لكن وفاته لم تكن مجرد خبر عابر في مدينة الحسيمة. خلال ساعات قليلة، تحولت الفاجعة الشخصية إلى حدث سياسي واجتماعي كبير، أشعل موجة من الحزن العارم في الشوارع وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وأعاد إلى النقاش العام ملف حراك الريف والمعتقلين والمصالحة الوطنية الغائبة منذ سنوات.

منذ الإعلان عن وفاته، انهالت التعازي من السياسيين والحقوقيين والنشطاء والمواطنين العاديين، جميعهم متفقون على رسالة واحدة: حان الوقت لطي صفحة مؤلمة، ولإعادة النظر في ملف المعتقلين، وعلى رأسهم ناصر الزفزافي. وقد تحوّلت جنازة الأب الحاشدة والموكب الجنائزي المهيب إلى ما يشبه استفتاءً صامتًا، يعكس حجم التأثير الذي لا يزال ملف الريف يحمله في وعي الجماهير المغربية.

حراك الريف: جذور الأزمة والأخطاء الماضية

لا يمكن فهم رمزية جنازة أحمد الزفزافي من دون العودة إلى سياق حراك الريف. بين 2016 و2017، خرج شباب المنطقة مطالبين بأبسط الحقوق: مستشفى جامعي، جامعة، فرص عيش كريم، وتجاوز سنوات من التهميش الاجتماعي والاقتصادي. لكن الأصوات المطالبة بالعدالة واجهت التجاهل والتشويه، إذ وُصفت مطالبهم بالتخوين واتهامات الانفصال، قبل أن تتحول الأمور إلى موجة اعتقالات وملاحقات قضائية اتهمت منظمات حقوقية محلية ودولية بأنها سياسية وانتقامية.

النتيجة كانت سلسلة أحكام قاسية ضد قادة الحراك، التي أفرزت قسوة قضائية لا تزال تتردد أصداؤها حتى اليوم. الدولة، طوال السنوات الماضية، أصرّت على إبقاء ستة من قادة الحراك خلف القضبان، في مقدمتهم ناصر الزفزافي، كما لو أن الزمن سيمحو الذاكرة الجماعية. لكن جنازة الأب فجّرت هذه الذاكرة، وأعادت القضية إلى صدارة النقاش العمومي، مع ما يحمله ذلك من إشارات حول وجوب معالجة الملف بجدية.

الجنازة: رسالة جماهيرية وصوت صامت للمصالحة

الجنازة الحاشدة، التي شهدت مشاركة واسعة من المواطنين، لم تكن مجرد وداع لرجل سبعيني، بل تحولت إلى مظاهرة جماهيرية رمزية، ردد خلالها المشيعون شعارات الحرية للمعتقلين، مؤكدين أن معركة الأب ستظل مستمرة ما دام ابنه ناصر ورفاقه من قادة الحراك خلف القضبان. كانت مشاهد التصفيق الحار، والدموع التي سالت من عيون الرجال والنساء البسطاء، والموكب الجنائزي المهيب، كلها مؤشرات على حجم الالتزام المجتمعي بالعدالة والكرامة.




أحمد الزفزافي، طوال السنوات التسع الماضية، كان صوت المعتقلين وذاكرة عائلاتهم. لم يساوم أو يهادن أو يتراجع عن موقفه، بل ظل يطالب بالعدالة لشباب المنطقة، وفضح التعذيب والظلم الذي تعرضوا له، حتى صار رمزًا للصبر والمثابرة في وجه القمع. وبوفاته، عاد هذا الرمز إلى الواجهة، مجدّدًا الحجة للمطالبة بالمصالحة الحقيقية.

كلمة ناصر الزفزافي: دعوة للوحدة والمصالحة

في خطاب قصير من فوق سطح بيت العائلة، ظهر ناصر الزفزافي وقد أثقلته سنوات الاعتقال، لكنه بدا أكثر صفاء ونضجًا. كلماته كانت مباشرة وهادئة ووطنية، بلا شعارات انفصالية، بلا مزايدات ثورية، بل دعوة صريحة للمصالحة الوطنية وإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع. وقال: “نحن أبناء هذا الوطن، من شماله إلى جنوبه، ولا شيء يعلو فوق مصلحة المغرب”.

هذا الخطاب، كما لاحظ المراقبون، فوّت الفرصة على أي طرف يحاول خلق شرخ بين الريف وبقية الوطن، وجرّد خصوم الانفراج من أي ذريعة للتلاعب بالأحداث أو خدمة أجندات خارجية. لم يكشف ناصر جديدًا، ولم يقم بمراجعة الماضي، لكنه قدّم فرصة ثمينة للدولة وللمجتمع للاستماع إلى صوت الشباب، والعمل على إنهاء ملف اعتقالات الحراك بطريقة وطنية ومسؤولة.

الدروس السياسية والاجتماعية من الحدث

تحولت جنازة أحمد الزفزافي إلى اختبار حقيقي للجميع: الشعب أظهر نضجًا ومسؤولية، بينما أظهرت الدولة قدرة على التعامل الإنساني مع الحدث، من خلال السماح لناصر بخطاب علني دون قيود، مع احترام النظام العام أثناء الموكب الجنائزي. المشهد الجماهيري الحضاري كان رسالة قوية بأن المغرب، في عمقه، يتوق إلى طي ملف 2017، ليس فقط من أجل حرية المعتقلين، بل لإعادة الاعتبار للوحدة الوطنية، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع.




التفاعل الجماهيري، سواء على الأرض أو عبر منصات التواصل، يؤكد أن ملف الريف ما زال حيًا في وجدان المغاربة، وأن استمرار القادة الستة في السجون يرمز إلى فشل جماعي في تضميد الجرح الاجتماعي والسياسي.




هنا تكمن الفرصة: تحويل الحزن الجماعي إلى مصالحة وطنية حقيقية، عبر قرار سياسي جريء يضمن إطلاق سراح المعتقلين وبدء حوار وطني شامل.

المصالحة الوطنية: الفرصة والرهان

الرسائل التي حملتها جنازة أحمد الزفزافي واضحة: هناك فرصة تاريخية لطي صفحة مؤلمة، من خلال خطوات عملية:

  1. إطلاق سراح المعتقلين تدريجيًا أو عبر إطار عفو مشروط، بما يضمن احترام القانون والحقوق الأساسية، ويعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.

  2. مشروع سياسي وتنموي للريف، يركز على التعليم، الصحة، فرص الشغل، البنية التحتية، ويعيد الاعتبار للمنطقة التي طالما عانت من التهميش.

  3. حوار وطني شامل، يشرك المجتمع المدني والهيئات الحقوقية والسياسية، لضمان معالجة شاملة وعادلة للقضايا الاجتماعية والسياسية في المنطقة.

  4. تعزيز وحدة الوطن، ليس فقط على مستوى التراب، بل على مستوى الحقوق والعدالة الاجتماعية، لضمان أن يشعر المواطنون في كل المناطق بأن الدولة حاضنة لهم وليس معاقبة.

خاتمة: رسالة وطنية

رحيل أحمد الزفزافي لم يكن نهاية قصة، بل لحظة رمزية تمثل اختبارًا حقيقيًا للقدرة على المصالحة. جنازته أظهرت استعداد المجتمع لقبول المصالحة، ودعت الدولة إلى الاستماع بعقلانية وحنكة. ناصر الزفزافي، بخطابه القصير والوطنية، قدّم مفتاحًا عمليًا: المستقبل لا يمكن أن يبنى على جراح مفتوحة، والوطن واحد، من صحرائه إلى ريفه.

لقد كانت الجنازة بمثابة امتحان نجح فيه الجميع: الشعب أبان عن نضجه، والدولة أظهرت جانبها الإنساني، والمجتمع برهن على رغبته في الوحدة الوطنية. يبقى السؤال الأكبر: هل سنترجم هذه الرمزية إلى واقع سياسي ملموس، يطوي صفحة الماضي، ويضع حجر الأساس لمستقبل أكثر عدالة وكرامة للجميع؟

كما كتب الشاعر والمعتقل السياسي السابق صلاح الوديع: “آن لهذا الجرح أن يندمل”. اليوم، تحمل جنازة أحمد الزفزافي هذه الأمنية إلى صميم القرار الوطني: الوقت قد حان لفتح أبواب الأمل، بالعفو الجميل، وبمشروع سياسي وتنموي يعيد الثقة ويستعيد اللحمة الوطنية.