ملعب مولاي عبد الله… حين تحوّلت كرة الفقراء إلى صالون للأثرياء

0
189

ليست مباراة الجمعة 5 شتنبر 2025 في المركب الرياضي مولاي عبد الله مجرد لقاء كروي عابر، ولا حتى مناسبة للاحتفال بتأهل المنتخب الوطني إلى نهائيات كأس العالم أو تدشين ملعب عالمي جديد. ما جرى تلك الليلة كان أبعد من الرياضة، وأعمق من الاحتفالات، لأنه كشف لنا صورة صارخة عن المغرب في زمن الفوارق المتسعة: ملعب من طراز عالمي، لكن بجمهور انتقائي، وصورة لفرجة بلا روح.

من مدرجات الفوضى إلى بروتوكول الصالون

قبل عقود، كانت الجماهير الشعبية تقتحم الأسوار، تتعرض للملاحقات وتخوض مواجهات مع القوات العمومية فقط من أجل الدخول إلى الملعب ومتابعة فريقها المفضل.

كان الملعب وقتها فضاءً صاخبا، مليئا بالحماس والعفوية، ينعكس مباشرة على عطاء اللاعبين فوق العشب. أما اليوم، فقد صار الدخول إلى الملعب امتيازا طبقيا يتطلب تذكرة غالية، سيارة خاصة، ولباسا أنيقا يليق بجلسة أشبه بحفل خاص منها بمباراة كرة قدم.

لقد تحول الجمهور من حشود شعبية تهتف وتغني وتبكي مع فريقها، إلى جمهور صامت يرفع هواتفه لالتقاط السيلفيات، وكأننا في مهرجان للأزياء لا في مدرجات ملعب. النتيجة: مباراة بلا حرارة، مدرجات بلا روح، وكرة فقدت صلتها بجمهورها الحقيقي.

سياسات لا صدفة

المشهد لم يكن وليد صدفة، ولا نتيجة تحول اجتماعي عفوي. إنه ثمرة سياسات ممنهجة، تعيد تعريف الملعب وتقصي الفقراء من فضاء كان دائما متنفسهم الطبيعي. السياسات ذاتها التي تهدم الأحياء الشعبية وتعيد ترحيل ساكنتها، هي التي تحوّل الملاعب إلى منتوج فاخر لا يطالُه إلا الميسورون أو أصحاب الدعوات.

بل إن حتى صورة المباراة، كما نقلتها الشاشات، فضحت التناقض: في الوقت الذي عرضت فيه الكاميرات “بوفيهات” الأكل الفاخر وأجواء الرفاهية، اكتفت القناة الرياضية الرسمية بطاولة متواضعة أشبه بمقهى شعبي للتعليق على الحدث. المفارقة كانت فاضحة: المغرب الرسمي يحتفل بالصورة الباذخة، بينما المغرب الشعبي يتابع عبر شاشة باردة وقراءة بلا عمق.

المقارنة التي تفضحنا

المثير أن التجارب الدولية، حتى في أكثر البلدان ليبرالية ورأسمالية، لا تسقط مواطنيها في حضن السوق وحده. في أمريكا مثلا – وهي النموذج الرأسمالي بامتياز – هناك حد أدنى من الحماية الاجتماعية: نقل عمومي متوفر، مدارس تقدم وجبات مجانية، فضاءات رياضة وترفيه في متناول الجميع. بينما نحن في المغرب، نتراجع خطوة بعد أخرى عن كل مكتسب اجتماعي، من الصحة والتعليم إلى النقل والرياضة، ونحوّل حتى الفرجة إلى سلعة.

المغرب بسرعتين

المباراة كشفت مجددا عن التناقض بين الخطاب الرسمي حول “المغرب بسرعتين” وبين الممارسة الفعلية التي تعمّق الهوة. فالرياضة، التي يُفترض أن تكون أداة توحيد وتعزيز للتماسك الوطني، صارت مجالا لإعادة إنتاج الفوارق الطبقية. الرباط بملاعبها الأربعة صارت فضاءً مغلقا على النخب، فيما تم إقصاء الدار البيضاء – مدينة الشعب بامتياز – من الرهان الاستراتيجي لبناء ملعب جديد.

إنذار سياسي واجتماعي

إن ما وقع في مباراة 5 شتنبر هو إنذار سياسي بامتياز: إذا واصلت الدولة انسحابها من أدوارها الاجتماعية، سنجد أنفسنا أمام وطن بلا صحة عمومية، بلا تعليم عمومي، بلا نقل عمومي، وبلا ملاعب شعبية. باختصار، أمام وطن يتحول فيه كل شيء إلى بضاعة، ومواطن يُعامل كزبون لا كجزء من جماعة وطنية.

كرة القدم امتحان في العمق

كرة القدم لم تعد مسألة ملاعب جديدة ومدرجات برّاقة فقط. إنها امتحان سياسي واجتماعي في جوهره: هل نريد مجتمعا متماسكا يتقاسم فرحة مشتركة في فضاءات مفتوحة للجميع؟ أم نريد طبقات متباعدة يراقب بعضها بعضا من خلف الحواجز، بما يولد الغبن والحقد الاجتماعي؟

الخلاصة

إن اللحظة اليوم حاسمة: المطلوب ليس المزيد من مشاريع البذخ، بل استعادة معنى الدولة الاجتماعية التي تضمن الحد الأدنى من الصحة والتعليم والنقل والفرجة الشعبية. لا تنمية بدون عدالة اجتماعية، ولا كأس عالم يساوي شيئا إن كان الشعب مقصى من مدرجاته.

الوطن ليس شركة، المواطن ليس زبونا، والدولة ليست تاجرا.