المغرب بين مدن بلا ملامح وأراضٍ مستباحة: من يربح ومن يخسر في لعبة الرخص؟

0
208

لم يعد خافياً أن المغرب يعيش منذ سنوات أزمة حقيقية في تدبير المجال العمراني والهندسي. تقارير رسمية صادرة عن لجان إدارية مشتركة ـ ضمت ممثلين عن العمالات والوكالات الحضرية والشرطة الإدارية ـ كشفت عن تورط منتخبين وموظفين جماعيين في تحويل رخص البناء والأنشطة الصناعية وربط الشبكات إلى مصدر ريع ومجال لتصفية الحسابات والمصالح الخاصة.

فوضى الرخص: حين يصبح القانون غطاءً للتسيب

ما كان يفترض أن يكون أداة لتنظيم المدن والحفاظ على هوية معمارية مغربية، أصبح اليوم وسيلة لطمس هذه الهوية. تقارير المراقبة فضحت خروقات في أقاليم النواصر وبرشيد ومديونة، حيث جرى استغلال الأراضي الفلاحية لأغراض صناعية، وضرب التصاميم القانونية عرض الحائط. الأمر وصل إلى رفض بعض المنتخبين السماح للجان التفتيش بمعاينة بنايات مشبوهة، بل لجأ بعضهم إلى التمويه والتضليل عبر إخفاء مواد كيماوية أو استبدالها بأكياس حبوب وحتى بدواب لإيهام المفتشين بأنها استغلاليات فلاحية.

سؤال الهوية الهندسية: لماذا هذا التراجع؟

إذا كانت دول كثيرة تفتخر بهويتها العمرانية والهندسية التي تعكس تاريخها وثقافتها (إسبانيا، فرنسا، وحتى دول الخليج)، فإن المغرب يعيش حالة تشوه عمراني يزداد استفحالاً في ضواحي كبريات المدن. أين هي الوكالات الحضرية؟ أين دور المجالس الجماعية؟ وكيف تُمنح الرخص دون احترام معايير السلامة أو جمالية المجال العمراني؟

ارتباك الأحزاب والانتخابات المقبلة

أخطر ما كشفت عنه هذه التقارير هو الاتجاه نحو إعداد “لوائح سوداء” قد تمنع منتخبين متورطين من الترشح للانتخابات المقبلة. هذا يعني أن الأحزاب ستجد نفسها أمام ورطة سياسية، بعدما راهنت على أسماء وُصفت بـ”الكبيرة”، لكنها اليوم مهددة بالسقوط بسبب شبهات فساد في التعمير. هنا يطرح السؤال:

  • هل كان غياب هؤلاء المنتخبين عن جلسات البرلمان والجماعات يعكس حقيقة انشغالهم بالمصالح الخاصة لا بالشأن العام؟

  • وهل تستطيع الأحزاب إعادة بناء ثقة المواطن بعدما تبين أن جزءاً من نخبها تحول إلى “سماسرة رخص” بدل أن يكونوا مدافعين عن الصالح العام؟

البعد القضائي والإداري: بين العزل والمتابعة

التقارير لم تتوقف عند حدود الإدانة الإدارية، بل أشارت إلى إمكانية اللجوء إلى مقتضيات المادة 64 من القانون التنظيمي للجماعات، أي فتح مساطر العزل أمام القضاء الإداري، بل وحتى المتابعة الجنائية في حق موظفين متورطين في تزوير تعليلات ومنح شهادات سكن مطابقة بشكل مغلوط. هذا البعد القضائي يفتح الباب أمام سؤال آخر:

  • هل نحن أمام بداية حقيقية لتطهير قطاع التعمير، أم مجرد عملية ظرفية مرتبطة بالاستعدادات الانتخابية؟

المواطن الضحية الأولى: من ريع الرخص إلى أزمة السكن

المفارقة المؤلمة أن هذه الاختلالات تُعمق أزمة السكن في المغرب، خصوصاً في مشاريع السكن الاقتصادي وإعادة إيواء قاطني الصفيح. فقد فرضت حالات عديدة تدخل الولاة والعمال بشكل مباشر للإفراج عن رخص متعثرة، في مشهد يعكس غياب الثقة في المؤسسات الوسيطة التي يفترض أن تقوم بدورها دون الحاجة إلى تدخل فوقي.

الخلاصة: هل من إرادة سياسية لإعادة الاعتبار للهوية العمرانية؟

المغرب اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يواصل الانزلاق نحو فوضى عمرانية بلا هوية، حيث تتحكم الرخص المشبوهة في ملامح المدن، أو أن يفتح ورشاً إصلاحياً شجاعاً يعيد الاعتبار للهندسة المغربية، ويضع حداً لزمن الريع والتسيب.

وهنا تبرز أسئلة جوهرية تحتاج إلى إجابة:

  • من يحمي هوية المغرب الهندسية من هذا العبث؟

  • هل تملك وزارة الداخلية الجرأة على مواجهة لوبيات التعمير و”سماسرة الرخص”؟

  • وأين موقع المواطن في كل هذه المعادلة، وهو الذي يدفع الثمن من جيبه ومن جودة حياته اليومية؟