لماذا تقف إسبانيا في وجه إسرائيل؟

0
335

قراءة تاريخية ومعاصرة في جذور موقف مدريد بين إرث فرانكو وضغوط الحاضر

مدريد – لم يكن الموقف الإسباني من إسرائيل وليد لحظة عابرة، ولا نتاج أزمة آنية مع حكومة تل أبيب. بل هو حصيلة مسار طويل متشابك تتداخل فيه عوامل التاريخ السياسي والثقافي والجغرافيا والدبلوماسية الدولية. من زمن فرانكو وتحالفاته المثيرة للجدل مع هتلر وموسوليني، إلى انتقال الديمقراطية بعد 1975، وصولاً إلى اعتراف إسبانيا المتأخر بإسرائيل عام 1986 ثم اعترافها بفلسطين عام 2024، تتشكل أمامنا لوحة كاملة تفسر لماذا تحولت مدريد اليوم إلى رأس الحربة الأوروبية في مواجهة السياسات الإسرائيلية.

إرث فرانكو… عزلة أوروبية وملاذ عربي

من عام 1939 حتى وفاته سنة 1975، حكم الجنرال فرانكو إسبانيا بقبضة حديدية. علاقاته الوثيقة بالمحور النازي-الفاشي جعلت بلاده منبوذة في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أن مدريد لم تنخرط رسمياً في المعارك. إسرائيل بدورها عارضت انضمام إسبانيا إلى الأمم المتحدة بسبب هذه الروابط.

ولكي يخرج من تلك العزلة، فتح فرانكو أبواب مدريد على العالم العربي: علاقات قوية مع مصر، المغرب، والسعودية، مدفوعة بورقة النفط التي أصبحت أداة استراتيجية بعد قرار «أوبك» عام 1973. في هذا السياق، بدت إسبانيا أقرب بكثير إلى القضايا العربية، وأبعد عن تل أبيب.

«إسبانيا في عهد فرانكو لم تكن صديقة لليهود، بل أقامت تحالفاتها على أساس مصلحي مع العرب. وهذا الإرث التاريخي ظل يطبع ذاكرتها السياسية لعقود.»

الانتقال الديمقراطي وولادة دور الوسيط

مع وفاة فرانكو دخلت إسبانيا مرحلة انتقالية إلى الديمقراطية. انضمت إلى الناتو عام 1982، ودخلت السوق الأوروبية المشتركة عام 1986. لكن شرط الانضمام كان الاعتراف بإسرائيل. وهكذا أصبحت مدريد آخر عاصمة أوروبية تقدم على هذه الخطوة، وإن بشروط واضحة: التشديد على حقوق الفلسطينيين ورفض ضم الأراضي المحتلة عام 1967.

هذا الاعتراف المتأخر لم يمنع إسبانيا من لعب دور الوسيط. مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 شكّل محطة مفصلية أظهرت رغبة مدريد في أن تكون «جسرًا» بين العرب وإسرائيل. لكن حرارة العلاقة ظلت رهينة طبيعة الحكومة في السلطة: اليمين المحافظ أكثر قرباً من تل أبيب، واليسار الاشتراكي أكثر انتقاداً لها وأكثر ميلاً للتضامن مع الفلسطينيين.

المجتمع الإسباني… ضغط من الشارع والبلديات

لا يمكن فهم السياسة الخارجية الإسبانية بمعزل عن الشارع. من برشلونة إلى مدريد إلى إشبيلية، تعكس المظاهرات المتكررة تضامن الشعب الإسباني مع الفلسطينيين. النقابات والبلديات تضيف ثقلاً أكبر:

  • بلدية برشلونة قطعت علاقاتها مع إسرائيل احتجاجاً على حرب غزة.

  • اتحاد عمال الموانئ بكتالونيا رفض التعامل مع أي سفن مرتبطة بتسليح إسرائيل.

  • أسطول «الصمود» الذي انطلق من برشلونة محاولاً كسر حصار غزة شكّل علامة رمزية على الدور الشعبي.

هذا الضغط الداخلي يفسر جرأة الحكومات اليسارية في اتخاذ مواقف صدامية مع إسرائيل، إذ يعرف السياسيون أن الشارع في الغالب سيصفق لهم بدل أن يعارضهم.

اعتراف فلسطين 2024… لحظة فاصلة

في مايو 2024، أعلنت حكومة بيدرو سانشيز اعترافها الرسمي بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، لتصبح إسبانيا من أوائل الدول الأوروبية التي تخطو هذه الخطوة. القرار لم يكن مجرد بيان سياسي؛ بل تبعته سلسلة إجراءات عملية:

  • حظر شامل على تجارة السلاح مع إسرائيل: لا بيع ولا شراء.

  • رفض مرور سفن تحمل أسلحة أو وقود عسكري موجه لتل أبيب عبر الموانئ الإسبانية.

  • منع دخول المتورطين في جرائم حرب في غزة إلى الأراضي الإسبانية.

  • حظر استيراد منتجات المستوطنات غير الشرعية.

«الاعتراف بفلسطين ليس موقفاً رمزياً فحسب، بل هو التزام أخلاقي وسياسي بضرورة وقف الإبادة وفتح الطريق أمام حل الدولتين.» — بيدرو سانشيز

هذه الإجراءات وضعت مدريد في مواجهة مباشرة مع تل أبيب، التي ردت بسلسلة عقوبات دبلوماسية، منها التضييق على عمل القنصلية الإسبانية في القدس.

تاريخ يتكرر: من 2006 إلى 2025

ليست هذه المرة الأولى التي تخرج فيها مدريد عن الصف الأوروبي. في حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله، ظهر رئيس الوزراء خوسيه لويس رودريغيز بالكوفية الفلسطينية منتقداً الهجوم الإسرائيلي. وفي 2014 تبنى البرلمان قراراً غير ملزم للاعتراف بدولة فلسطينية.

لكن ما يحدث منذ 2023 يختلف في حجمه وحدّته. فإسبانيا اليوم لا تكتفي بالتصريحات، بل تترجم المواقف إلى قرارات سياسية واقتصادية، وتدفع الاتحاد الأوروبي إلى إعادة التفكير في موقعه من الصراع.

البعد الثقافي والجغرافي… الأندلس كذاكرة حيّة

لا يمكن إغفال تأثير التاريخ الطويل للأندلس، حيث امتزجت الثقافات العربية والإسلامية مع الهوية الإسبانية. هذا الإرث حاضر بقوة في الوعي الجمعي الإسباني، ويدفع قطاعات واسعة من المجتمع إلى التعاطف مع العالم العربي وقضاياه أكثر من غيرهم من الأوروبيين.

كما أن القرب الجغرافي من المغرب وشمال إفريقيا يجعل إسبانيا أكثر حساسية تجاه توازنات المتوسط، وأكثر إدراكاً لخطورة تهميش القضية الفلسطينية على استقرار المنطقة.

أسئلة كبرى تستدعي تحقيقاً أعمق

  • هل يشكل إرث فرانكو وعلاقاته بالمحور النازي جذراً طويل الأمد يفسر موقف مدريد من إسرائيل حتى اليوم؟

  • إلى أي مدى أثّر ضغط الشارع الإسباني والنقابات والبلديات على قرار الاعتراف بفلسطين؟

  • هل يمكن لإسبانيا تحمّل التبعات الاقتصادية لحظر الأسلحة وصفقات الدفاع مع إسرائيل؟

  • كيف ستؤثر هذه السياسة على موقع مدريد داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؟

  • هل تتحول إسبانيا إلى «حالة أوروبية خاصة» قادرة على صياغة سياسة بديلة تجاه الشرق الأوسط؟

خاتمة: نحو صحافة التاريخ

إن تتبّع الموقف الإسباني من إسرائيل يكشف أنه ليس مجرد خيار سياسي لحكومة يسارية أو رد فعل ظرفي، بل هو امتداد لمسار تاريخي طويل يتقاطع فيه الإرث الثقافي للأندلس، العزلة التي عاشتها مدريد بعد الحرب العالمية الثانية، والدور الذي تبنّته كوسيط في الشرق الأوسط.

اليوم، بينما تقف أوروبا في غالبها موقفاً متردداً، تبرز إسبانيا كصوت صريح يطالب بوقف الحرب ومحاسبة إسرائيل أمام القانون الدولي. لكن هذا الموقف يطرح بدوره أسئلة جديدة: هل تستطيع مدريد الاستمرار في هذا النهج وسط الضغوط الأوروبية والأميركية؟ وهل ستتحول من مجرد استثناء في أوروبا إلى نموذج يحتذى به؟

«إسبانيا لم تعد تكتفي بأن تكون جسرًا بين العرب وإسرائيل… بل اختارت أن تكون صوتاً أخلاقياً في مواجهة صمت الآخرين.»

التحقيق الصحافي في هذا المسار يظل مفتوحاً: وثائق الأرشيف، محاضر الحكومة، وأصوات الشارع الإسباني كلها خيوط يجب تتبّعها لفهم صورة كاملة عن دولة قررت أن تسبح عكس التيار الأوروبي.