“جيل زد يتحدث… والحكومة لم تصل بعد: ‘ميدي 1 تيفي’ تكشف أزمة التواصل مع الشباب”

0
142

في واحدة من أكثر الحلقات حساسية على قناة “ميدي 1 تيفي”، ظهر مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان والناطق الرسمي باسم الحكومة، ليتحدث مباشرة عن الاحتجاجات الشبابية التي اجتاحت الشارع المغربي لليوم السابع على التوالي، والتي اختارت الحكومة أن تصفها بـ“التعبيرات الشبابية”.

اللقاء الذي شارك فيه عدد من الصحفيين من القناة ومن وسائل الإعلام الوطنية، بدا في ظاهره محاولةً لفتح نافذة حوار مع الرأي العام، لكنه كشف في العمق عن أزمة تواصل حادة بين الحكومة والمجتمع، وخاصة مع جيل جديد من المغاربة لم يعد يعترف بالوسائط السياسية التقليدية ولا بخطاب السلطة المألوف.

فمنذ اندلاع موجة الاحتجاجات الأخيرة التي عمّت عدداً من المدن المغربية، لم يعد النقاش محصوراً في مطالب اجتماعية أو اقتصادية محددة، بل تجاوز ذلك إلى تساؤلات أعمق حول قدرة الدولة على فهم لغة هذا الجيل الجديد — جيل وُلد في عالم رقمي مفتوح، لا يقبل بالوساطة الحزبية القديمة ولا يرضى بالخطابات المعلّبة التي لا تعكس واقعه اليومي.

في هذا السياق، جاء ظهور مصطفى بايتاس على “ميدي 1 تيفي” كمحاولة من الحكومة لطمأنة الرأي العام وتقديم روايتها للأحداث الجارية في الشارع. إلا أن ما بدا في البداية مبادرة تواصلية قد تحوّل سريعاً إلى مرآة تعكس أزمة أعمق: أزمة ثقة متبادلة بين السلطة والشباب، وأزمة تواصل تكشف أن الحكومة لم تجد بعد اللغة التي يمكن أن تصل إلى “جيل زد” المغربي.

لتظل الأسئلة معلقة بعد الحلقة:
هل نجحت الحكومة فعلاً في إيصال رسالتها؟ أم أن ما حدث كان محاولة متأخرة لتدارك الفجوة المتسعة بين الدولة والمجتمع؟ وهل تكفي مثل هذه اللقاءات الإعلامية لتبديد الغضب الشعبي، أم أنها تزيد من وضوح المسافة الفاصلة بين خطاب المؤسسات وواقع الشارع؟

الإنصات.. كلمة السر التي تكررت دون أثر

خلال اللقاء، حرص الوزير بايتاس على التأكيد أكثر من مرة على أن “الحكومة سمعت الشباب” وأنها تعتبر الإنصات مقدمة ضرورية لأي معالجة واقعية. لكن، في واقع الأمر، بدا هذا الخطاب أقرب إلى لغة التهدئة المؤقتة منه إلى خطة حقيقية للإصلاح.

فالاحتجاجات لم تكن وليدة لحظة، بل جاءت بعد تراكم طويل من الإحباطات: غلاء المعيشة، ضعف جودة الخدمات العمومية، وتراجع الثقة في الأحزاب والنخب. ومع ذلك، اختارت الحكومة – عبر بايتاس – أن تذكّر المغاربة بأن الأزمات “موروثة منذ الاستقلال”، وكأنها بذلك تبحث عن تبرير أخلاقي للعجز السياسي بدل أن تقدّم رؤية للخروج من المأزق.

هذه المقاربة أثارت تساؤلات لدى الرأي العام:

إلى أي حد يمكن اعتبار خطاب “الإنصات” مجرّد غطاء لتأجيل القرارات؟
وهل يُعقل أن تكتفي حكومة في منتصف ولايتها بترديد أن “المشاكل قديمة” دون أن توضّح ماذا أنجزت تحديداً لمعالجتها؟

حكومة في موقع الدفاع لا القيادة

ظهر الوزير بايتاس في اللقاء محاصَراً بالأسئلة أكثر مما هو مبادِر بالإجابات. كان واضحاً أن الحكومة لم تكن تملك سردية موحدة للأزمة. فحين سُئل عن تأخر التفاعل الرسمي بعد خروج المظاهرات، أجاب بأن “الاجتماع الثلاثي للأغلبية كان كافياً”، بينما كان الرأي العام ينتظر موقفاً سياسياً مباشراً من رئيس الحكومة أو مبادرة وطنية للحوار.

في الأزمات الكبرى، لا تنتظر الشعوب البلاغات، بل رمزية الحضور السياسي. ولذلك، تساءل الكثير من المراقبين:

أين رئيس الحكومة من كل هذا؟
ولماذا لم يخاطب الشباب بشكل مباشر عبر التلفزيون أو المنصات الرقمية؟

غياب القيادة الرمزية في لحظة الغليان جعل الحكومة تظهر كمن تدير الأزمة من وراء الستار، تاركة المجال لوسائل التواصل الاجتماعي كي تتحول إلى ساحة النقاش الأساسية.

أزمة تواصل قبل أن تكون أزمة سياسة

اللقاء التلفزيوني كشف بوضوح أن المشكل ليس فقط في القرارات، بل في طريقة تواصلها مع المواطن. فبايتاس، رغم إجادته للغة السياسية الهادئة، لم يقدّم جديداً مقنعاً في مضمون الرسالة. ولم يشرح لماذا يغيب وزراء القطاعات الحيوية عن الإعلام، ولا لماذا يتم تجاهل دعوات الحوار مع الشباب في الميدان أو عبر منصات رسمية.

هذا الصمت أو الغياب يفتح الباب أمام ما يسميه علماء الاتصال بـ“الفراغ المعلوماتي”، وهو ما يُغري الإشاعات والمغالطات لتملأ الفضاء العام. وفي زمن السرعة الرقمية، يصبح من المستحيل أن تُقنع جيلاً كاملاً بالانتظار حتى صدور “بلاغ رسمي” بعد أسبوع من الحدث.

لقد تحولت الحكومة، من دون أن تدرك، إلى مؤسسة بطيئة في زمن السرعة، تكتب بلغة إدارية لجيل يتحدث بلغة الفيديو المباشر والهاشتاغات.

 “جيل زد”.. خصم الدولة أم ضميرها الحي؟

في خضم النقاش، بدا أن الحكومة تنظر إلى الاحتجاجات الشبابية كـ“تعبيرات آنية” لا كتحول اجتماعي عميق. لكن جيل زد المغربي، الذي تتراوح أعماره بين 18 و30 سنة، ليس جيل شعارات، بل جيل نقدي، متصل، ومتشبّع بفكرة الكرامة والمحاسبة.

هذا الجيل لا يرفع شعارات أيديولوجية، بل يسائل الدولة بلغة بسيطة:

لماذا لا تتساوى الفرص؟
لماذا يبقى التعليم والصحة مجالاً للتمييز الطبقي؟
ولماذا لا ينعكس غنى البلد على كرامة أبنائه؟

جيل زد لا يبحث عن “منصب” بل عن معنى للانتماء. ولذلك، فالمشكلة ليست في الاحتجاج ذاته، بل في الطريقة التي تقرأ بها النخبة هذا الاحتجاج. إنه نداء لفتح صفحة جديدة من العلاقة بين الدولة والمجتمع، حيث يكون المواطن شريكاً لا متلقياً للقرارات.

الأرقام لا تكفي لإقناع الشارع

في رده على الانتقادات، استعرض الوزير ميزانيات ضخمة: رفع ميزانية الصحة من 19 إلى 32 مليار درهم، افتتاح كليات طب جديدة، وبرامج لدعم التشغيل والتعليم. لكن، مهما كانت الأرقام مغرية، فهي لا تكفي لإقناع الشارع.

فالناس لا يعيشون داخل الجداول المالية، بل داخل الواقع اليومي. وحين يقف المواطن في طابور المستشفى، أو يعجز عن دفع كلفة النقل والدراسة، فإن حديث الأرقام يفقد معناه تماماً. إن فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع لم تعد مالية، بل رمزية. الناس يريدون أن يشعروا أن الحكومة تفكر بهم قبل أن تتحدث عنهم.

غياب الحس الرمزي.. فشل في إدارة الأزمات

حين وقعت فاجعة الحوز، كانت لحظة اختبار حقيقي لصورة الدولة. ورغم المجهود الكبير الذي بُذل على الأرض، شعر جزء كبير من المغاربة أن الحكومة كانت غائبة عن المشهد الرمزي.

الوزير بايتاس تحدّث في اللقاء عن “زيارات ميدانية” و“خطة لإعادة الإعمار”، لكن السؤال الأعمق ظل قائماً:

لماذا لم يشعر المواطن أن الحكومة كانت معه في الميدان إنسانياً، لا فقط إدارياً؟

لقد برهنت التجربة أن النجاح التقني لا يعوّض الغياب العاطفي، وأن الدولة التي لا تعرف كيف تواسي مواطنيها، تفقد جزءاً من شرعيتها الرمزية.

التبرير لا يُقنع جيلاً يعيش في زمن الحقائق الفورية

حين برّر بايتاس تعثر بعض الإصلاحات بـ“تراكمات الماضي”، بدا وكأنه يعيد خطاباً سمعه المغاربة منذ التسعينيات. لكن جيل اليوم يعيش في زمن مختلف. جيل يرى بلاده تقارن نفسها مع نماذج دولية صاعدة، ويتساءل:

لماذا يتقدم غيرنا ونحن نكرر الأعذار نفسها؟

الاحتجاجات لم تكن تمرداً على الدولة، بل على خطاب التبرير المتواصل الذي فقد صدقيته.
المغاربة لا يريدون سماع أن “المشكل قديم”، بل أن “الحل بدأ فعلاً”.

الحاجة إلى رؤية وطنية جديدة للشباب

إذا كانت الحكومة فعلاً قد “سمعت الشباب”، كما قال بايتاس، فإن الخطوة التالية يجب أن تكون أكثر من مجرد وعود.

ينتظر المغاربة إعلان رؤية وطنية جديدة للشباب تشمل:

  • فتح قنوات حوار مباشرة ومنتظمة.

  • إشراك الشباب في صياغة السياسات العمومية.

  • إدماجهم في الإعلام العمومي ليكون صوتهم جزءاً من المشهد الرسمي.

  • إعادة الاعتبار للعمل الجمعوي والسياسي كمجال للتعبير لا للتوظيف.

إن إعادة بناء الثقة بين الدولة وجيل زد لن تتم عبر البلاغات، بل عبر إشراك فعلي يثبت أن صوت الشارع مسموع ومؤثر في القرار.

نحو دولة تستمع لا تبرر

في النهاية، يمكن القول إن ظهور بايتاس على قناة ميدي 1 تيفي كان خطوة ضرورية لكنها غير كافية.

لقد نجح الوزير في خفض حرارة الخطاب الرسمي، لكنه فشل في رفع منسوب الثقة الشعبية.
فالناس لا يريدون من الحكومة أن تدافع عن نفسها، بل أن تدافع عنهم.

وما لم تدرك الأغلبية الحاكمة أن الأزمة سياسية بقدر ما هي اجتماعية، فإن أي تعديل حكومي أو ميزانية إضافية لن يغير شيئاً في العمق.

اللحظة الحالية ليست لحظة تبرير، بل لحظة إعادة تعريف معنى الدولة في وجدان الشباب المغربي.

وإذا لم يتحول خطاب “الإنصات” إلى فعل مؤسساتي حقيقي، فإن “جيل زد” سيستمر في الشارع، ليس بدافع الغضب، بل دفاعاً عن كرامة وطن يريد أن يراه ينهض أخيراً.

 خاتمة:

الاحتجاجات التي تعيشها المملكة ليست مجرد موجة غضب عابرة، بل جرس إنذار حضاري يذكّر الجميع – حكومة وأحزاباً ونخباً – بأن زمن الخطاب الفوقي قد انتهى.

المغرب اليوم أمام لحظة مفصلية: إما أن يستوعب صرخة شبابه كفرصة لتجديد العقد الاجتماعي، أو أن يواصل سياسة التبرير حتى يفقد آخر ما تبقّى من الثقة.

وبين خطاب “الإنصات” وخطاب “الإنكار”، يقف الوطن في مفترق طرق…فإما أن نسمع أصوات شبابنا ونبني معهم المستقبل، أو نواصل الدوران في حلقة “التبرير”، حتى نصحو ذات يوم على قطيعة لا رجعة فيها بين الدولة وجيلها الجديد.