قراءة في رسالة إلى الملك وما تخفيه من دلالات سياسية ورسائل مضمَرة إلى القصر
في الثامن من أكتوبر 2025، صدرت رسالة مفتوحة إلى الملك محمد السادس تحمل توقيعات نخبة من الأكاديميين والحقوقيين والصحفيين والفنانين والفاعلين المدنيين. ظاهرها دعوة هادئة للإصلاح، وباطنها تحذير لبِق من المأزق الذي يعيشه المغرب سياسيًا واجتماعيًا.
رسالة مفتوحة إلى الملك محمد السادس بشأن مطالب حراك "جيل زد" بعنوان "حان وقت التحرك في العمق" موقعة من طرف مثقفين.ات، حقوقيين.ات وصحافيين.ات. pic.twitter.com/Dlabq5Jya0
— hajar raissouni 🇵🇸هاجر الريسوني (@hajarraissounu) October 8, 2025
هذه ليست وثيقة احتجاجية، بل محاولة واعية لتصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع عبر بوابة السيادة، أي عبر الملك نفسه. لكنها أيضًا رسالة ذات بنية مزدوجة: لغتها ناعمة، ونبرتها محسوبة، غير أن ما تُخفيه بين السطور يتجاوز ما تُصرّح به الأسطر.
الخطاب إلى الملك… لا إلى الحكومة
اختيار توجيه الرسالة إلى الملك مباشرة بدلًا من الحكومة هو المفتاح الأول لفهمها. فالمرسلون يدركون جيدًا أنّ الحكومة الحالية فقدت جزءًا كبيرًا من رصيد الثقة الشعبي، وأنها لم تعد قادرة على إطلاق مبادرات إصلاحية ذات صدًى. لذلك، تمّ تجاوزها في الخطاب لصالح القناة السيادية التي تمثل مصدر القرار والشرعية النهائية.
العبارات من قبيل «بلا عتب ولا إقصاء» و*«مبادرة مخلصة»* تنزع عن الرسالة طابع التمرّد أو المواجهة، لتتحول إلى نداء أخلاقي يستدرج القصر إلى الإصغاء. إنها استراتيجية تواصلية ذكية: مخاطبة رأس الدولة دون استفزازه، وإظهار الاحترام دون الخضوع.
لغة المطالب: مؤسسية ومدروسة
الرسالة لا تتحدث بلغة الشارع أو الغضب، بل بلغة الإدارة والإصلاح المؤسسي. محاورها واضحة: التعليم، الصحة، العدالة، محاربة الفساد، إطلاق سراح معتقلي الرأي، والإصلاح الدستوري. أي أن المحتوى موجّه نحو إعادة ترتيب البنية العميقة للدولة، وليس مجرد إجراءات ظرفية.
بهذا المعنى، لا تريد الرسالة تغييرًا حكوميًا مؤقتًا، بل تسعى إلى تجديد العقد السياسي بين الدولة والمواطنين عبر تدخل سيادي في العمق.
الزمن كرسالة رمزية
إشارة الموقعين إلى مرور ستة وعشرين عامًا من حكم الملك ليست تفصيلاً لغويًا، بل استحضار رمزي لتاريخ سياسي كامل. الرسالة تُلمّح بأن كل مرحلة حكم تستدعي مراجعة وتقييمًا ذاتيًا. وكأنها تقول ضمنيًا: «لقد آن الأوان لتجديد العهد من داخل النظام نفسه قبل أن يُفرض التغيير من الخارج».
هنا تتداخل الرسالة بين البعد الرمزي (إحياء شرعية الملك كمجدّد) والبعد العملي (دعوة لتصحيح الاختلالات التي تراكمت عبر الزمن).
ما بين السطور: إنذار ناعم للقصر
وراء لهجة الاحترام تختبئ ملامح إنذار سياسي ناعم. فالموقعون يُشعرون القصر بأن الوضع الاجتماعي بلغ حدًّا لا يمكن احتواؤه بالسياسات الأمنية فقط، وأنّ الغضب الشعبي لم يعد محدودًا بتيارات راديكالية بل أصبح تعبيرًا عن وعي جماعي جديد.
الرسالة ترسم خطًّا فاصلًا بين خيارين: إصلاح عميق يعيد بناء الثقة، أو استمرار في إدارة الأزمات بالأساليب القديمة بما قد يؤدي إلى تآكل الشرعية على المدى المتوسط. إنها ليست معارضة، بل محاولة لدفع القصر لاختيار الطريق الأصعب والأكثر استدامة.
تعددية الموقّعين: تمثيل رمزي للنخبة الوطنية
قائمة الأسماء الموقعة ليست مجرد تجميع عشوائي، بل هي خريطة رمزية لمجتمع مدني من الداخل. فيها أساتذة جامعيون وصحفيون وحقوقيون ومحامون وفنانون. هذا التنوع يُظهر أن المبادرة ليست حكرًا على تيار سياسي، بل مشروعًا وطنيًا جامعًا.
اختيار عرض الأسماء بالترتيب الأبجدي أو المهني يعكس رغبة في تجنب أي إيحاء بالزعامة أو التنافس الحزبي، في حين أن ذكر صفاتهم المهنية يمنح الوثيقة وزنًا أخلاقيًا ومسؤولية مدنية. إنها طريقة لقول: «لسنا معارضين، نحن مواطنون يطالبون بالجدية».
الرسالة إلى الرأي العام والقصر معًا
من خلال توازنها في اللغة والمضمون، تخاطب الوثيقة مستويين في آن واحد:
-
القصر، لتقول له إنّ المبادرة الإصلاحية لم تعد ترفًا سياسيًا بل ضرورة تاريخية.
-
والرأي العام، لتمنحه أملًا في أن التغيير ممكن من داخل الدولة وليس ضدها.
بهذا المعنى، تشكل الرسالة جسرًا بين الشارع والمؤسسة، وتحاول إعادة تعريف العلاقة بينهما خارج ثنائية الطاعة أو التمرد.