«من تصريحات بايتاس إلى خطاب الملك: اختبار الثقة الشعبية في يوم الجمعة»

0
149

الحكومة تبرر.. والملك يُرتقب: قراءة في صمت القصر وصخب جيل زد

(ما بين “منجزات الحكومة” و”رسالة جيل زد”)

مقدمة: البلاد على حافة مساءلة جماعية

في لحظة سياسية مشحونة، تتجه أنظار قرابة أربعين مليون مغربي إلى خطاب الملك المرتقب غدًا الجمعة بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الجديدة. ليس لأنه مجرد تقليد دستوري، بل لأن الشارع، وخاصة شباب “جيل زد”، يعيش حالة ترقب واحتقان نادرة، مطالبًا برحيل حكومة أخنوش التي يعتبرها جزء كبير من المواطنين “فاقدة للشرعية الاجتماعية” بعد فشلها في الوفاء بوعودها، وتراكم إخفاقات في قطاعات استراتيجية مثل الصحة والتعليم والشغل.

تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، أتى ليزيد المشهد تعقيدًا: بين إعلان “منجز كبير” وادعاء “التقاط رسالة المحتجين”، وبين مطالبة الشارع بتغيير جذري، أصبح التحليل الصحافي ضرورة لفهم ما بين سطور الكلمات الرسمية وما يُترقب من خطاب ملكي قد يكون الفيصل في علاقة الدولة بالشعب.

فما الذي أراد بايتاس قوله؟ وما الذي حاول أن لا يقوله؟ وكيف يمكن قراءة هذا التصريح على ضوء اللحظة الملكية المنتظرة؟ وهل يعكس بداية تحول في خطاب الحكومة أم مجرد “دفاع متأخر” عن الذات في زمن الغليان الشعبي؟

أولًا: الحكومة تتحدث بلغة الأرقام… والشعب يرد بلغة الواقع

بايتاس، الذي يُعتبر الوجه الإعلامي الأول للحكومة، حاول في ندوته الصحافية رسم صورة حكومة منخرطة بجدّ في الإصلاح. تحدث بلغة الأرقام: رفع الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص من 3000 إلى 4500 درهم، رفع متوسط الأجر في القطاع العام إلى 10.600 درهم، وكلفة الحوار الاجتماعي التي ستبلغ 49 مليار درهم في أفق 2027. كما أشار إلى الإنجازات القانونية والإصلاحات المرتبطة بالسياسة الجنائية، في محاولة لتأكيد الجدية والاستمرارية.

لكن خلف هذه الأرقام، تقبع مفارقة كبرى: الواقع الاجتماعي لم يتحسن بالقدر الذي تروّج له الحكومة. فالغلاء ينهش جيوب المواطنين، والبطالة بين الشباب تتجاوز 15٪ وفق إحصاءات حديثة، والتعليم يعيش أزمة هيكلية في البنية التحتية والمناهج، بينما تتآكل الثقة في المؤسسات السياسية.

تصريحات بايتاس تبدو أشبه بمحاولة “طمأنة” سياسية، لكنها لم تلمس جذور الأزمة، خاصة حين قال إن “الحكومة التقطت رسالة المحتجين”، عبارة توحي بالاعتراف بالأزمة، لكنها لا تقدّم جوابًا عنها، ولا تشير إلى أي مراجعة حقيقية للسياسات العامة أو لإستراتيجية الحكم.

ثانيًا: “التقطنا الرسالة”… ولكن أي رسالة بالضبط؟

حين يقول الناطق الرسمي إن الحكومة “التقطت الرسالة”، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: أي رسالة يقصد؟ هل هي رسالة الشارع التي تطالب بالرحيل، أم مجرد نداء لإصلاحات تجميلية، تؤجل المشاكل الهيكلية دون التعامل مع أسبابها العميقة؟

لغة بايتاس هنا غامضة ومحمّلة بالالتباس. فهو يعترف ضمنيًا بأن هناك “رسالة غضب” من الشارع، لكنه في الوقت نفسه يحاول إعادة تأويلها على أنها دعوة لتسريع الأوراش لا لمحاسبة الحكومة. بهذا المعنى، تبدو الحكومة كمن يقرأ الرسالة بطريقة تخدم بقاءه، لا مراجعة نفسه.

جيل زد، الذي خرج في حراك رقمي وشعبي واسع، لا يطالب بإصلاحات تقنية بحتة، بل بمساءلة سياسية وأخلاقية أعمق: لماذا لم تنجح الحكومة في تحقيق وعودها؟ ولماذا يزداد الفقر والبطالة في عهدها رغم الموارد الهائلة التي رافقت ولاية أخنوش؟

ثالثًا: بايتاس يحمّل الشباب مسؤولية غياب الحوار

أحد أكثر المقاطع إثارة في تصريح بايتاس قوله إن “الحوار يتطلب طرفين، وإلى أن يتوفر الطرف الآخر (الشباب)…”. هنا تنتقل الحكومة من موقع المسؤولية إلى موقع العتاب، وكأنها تقول للشباب: “نحن مستعدون، وأنتم الغائبون”.

لكن الواقع أن جيل زد فقد الثقة في آليات الحوار التقليدية، لأنها لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة في ملفات مصيرية: التشغيل، السكن، التعليم، والعدالة الاجتماعية. هذا التوجّه الخطابي يشي بعجز الحكومة عن فهم دينامية هذا الجيل الذي يعيش في فضاء رقمي مفتوح، يرى، يقارن، ويتحرك بسرعة لا تضاهيها سرعة البيروقراطية الحكومية. إنه جيل لا يريد وعودًا، بل أفعالًا ملموسة تُعيد إليه شعور المشاركة والكرامة.

رابعًا: من “تسريع الأوراش” إلى “تأجيل الحلول”

حين يقول بايتاس إن الحكومة “تعكف على تسريع الأوراش المرتبطة بالصحة والتعليم والشغل”، يبدو أن الخطاب يعيد إنتاج عبارة متكررة منذ عقود.

لكن ما معنى “تسريع الأوراش” في لحظة اجتماعية متوترة كهذه؟ هل يكفي لتخفيف غضب المواطنين، أم أن الشارع يريد شيئًا أعمق: تغييرًا في طريقة الحكم نفسها؟

الأوراش الكبرى، مثل “إصلاح التعليم” و”إصلاح الصحة”، تحولت إلى مشاريع بلا أثر محسوس في المعيشة اليومية. لذا فإن وعد “تسريعها” قد يُقرأ كإقرار ضمني بأن الحكومة تأخرت أصلًا، وأنها الآن تحاول اللحاق بمزاج عام تجاوزها.

خامسًا: أرقام وإحصاءات تكشف الفجوة

  • نسبة البطالة بين الشباب: أكثر من 15٪، مع تفاقم البطالة الجامعية في المدن الكبرى.

  • التضخم وغلاء المعيشة: مؤشر أسعار الاستهلاك ارتفع بنسبة 6.8٪ خلال العام الجاري، ما يزيد من معاناة الأسر ذات الدخل المحدود.

  • التعليم: أكثر من 40٪ من المدارس تحتاج إلى صيانة عاجلة، والبنية التحتية الرقمية محدودة، ما يجعل التعلم عن بعد شبه مستحيل لبعض الفئات.

  • الصحة: أكثر من نصف المستشفيات العامة تعاني نقصًا في الأطر الطبية والمعدات الأساسية.

هذه الأرقام تجعل خطاب الحكومة الرقمي والأرقام الحسابية بعيدًا عن الواقع المعيشي الذي يعيشه الشارع، وتزيد من شعور جيل زد بالإقصاء.

سادسًا: من الحكومة إلى القصر… لحظة مفصلية

تصريح بايتاس جاء قبل يوم واحد من الخطاب الملكي، وكأنه تمهيد أو “ضبط للنبرة”.
الرسائل واضحة: الحكومة تريد أن تظهر “منصتة”، “مستعدة”، و”مسؤولة”.

لكن الرأي العام ينتظر كلمة الفصل من القصر: هل سيمنح الملك فرصة جديدة أم سيختار إعادة ترتيب البيت الحكومي؟

الخطاب الملكي الافتتاحي للدورة التشريعية يُحدّد الاتجاه السياسي للمرحلة المقبلة، وسيكون بمثابة استفتاء على أداء الحكومة:

  • هل سيكتفي بتوجيه انتقادات معتادة حول بطء التنفيذ؟

  • أم سيعلن عن قرارات أكثر جرأة تتجاوب مع نبض جيل زد الذي فرض نفسه كقوة اجتماعية جديدة؟

سابعًا: سيناريوهات محتملة للخطاب الملكي

السيناريو الإصلاحي العاجل

  • دعوة الملك إلى مراجعة شاملة في الأداء الحكومي، وتفعيل محاسبة سياسية واضحة، مع إعادة ترتيب أولويات الدولة نحو التعليم والصحة والتشغيل.

  • قد يشمل تغيير بعض الوزراء أو تكليف تكنوقراط بقطاعات استراتيجية.

  • النتيجة المحتملة: “نصف انقلاب ناعم” داخل الأغلبية الحالية، وتهدئة نسبية للشارع.

السيناريو التهدوي

  • التركيز على “ضرورة الحوار الوطني”، ودعوة الشباب للانخراط في الأوراش، دون إجراءات ملموسة.

  • النتيجة المحتملة: قد يُفسر كمهلة جديدة للحكومة، لكنها محفوفة بالمخاطر، لأن الشارع قد يفسرها كـ”تجاهل” لنبضه.

السيناريو المفاجئ

  • في حال تصاعد الضغط الشعبي، قد يُعلن عن مراجعة حكومية واسعة أو إشراك تكنوقراط في إدارة قطاعات حيوية، كرسالة إلى الداخل والخارج بأن الدولة تستجيب وتعيد ضبط البوصلة.

  • النتيجة المحتملة: استجابة قوية، لكنها تحمل تحديات سياسية وتنفيذية كبيرة.

ثامنًا: ما وراء الكلمات… أزمة ثقة

تصريحات بايتاس تكشف أزمة عميقة في علاقة الحكومة بالمجتمع. إنها حكومة تتحدث لغة إنجازات رقمية في بلد يبحث عن عدالة اجتماعية ملموسة.

جيل زد لا يريد أن يسمع عن رفع الأجور في حين أن السكن مستحيل، البطالة تتفاقم، والتعليم العمومي ينهار.

الهوة لم تعد فقط بين “الحكومة والشعب”، بل بين ثقافتين سياسيتين:

  • ثقافة السلطة التي ترى في الإنجاز مسألة مؤشرات.

  • ثقافة الجيل الجديد الذي يقيس النجاح بمدى الكرامة والعدالة والمشاركة.

تاسعًا: أسئلة مفتوحة للنقاش

  • ما الذي جعل الشارع يفقد الثقة بهذا الشكل؟ هل هي وعود انتخابية غير محققة؟ الفساد؟ التفاوت المجالي؟ سوء التسيير؟

  • هل الحكومة الحالية قادرة على التغيير الفعلي، أم أن المنظومة السياسية تحد من قدراتها؟

  • ما نسبة الشباب الذي يطالب برحيل الحكومة مقابل من يكتفي بالإصلاحات الجزئية؟

  • كيف سيرتبط الخطاب الملكي بخارطة الطريق العملية؟ هل سيصدر مرسومًا، تغييرات وزارية، أو قوانين جديدة؟

  • هل الخطاب الملكي سيكون كافيًا لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع؟

ختامًا: بين لحظة بايتاس ولحظة الملك

المغرب يقف اليوم عند مفترق حاسم.
تصريح بايتاس يعكس محاولة حكومية لاستعادة زمام المبادرة، بينما خطاب الملك غدًا سيكون لحظة الحقيقة.

هل سيعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، أم سيكرّس الانقسام بين منجزات السلطة وواقع الناس؟
ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة حكومة، بل امتحان لنموذج الحكم في مواجهة وعي جيل جديد لا يقبل بالانتظار.

“بين خطاب الحكومة وخطاب الملك… هناك شارع بدأ يكتب تاريخه بنفسه.”