جيل زد.. حين يواجه الشباب مرآة النظام: قراءة فكرية في تحذيرات أبوبكر الجامعي

0
191

في زمن تتقاطع فيه التكنولوجيا مع السياسة، وتختلط فيه صورة “الاستقرار” بالهشاشة الاجتماعية، يبدو أن المغرب يعيش واحدة من أكثر لحظاته حساسية منذ عقد. ليست المسألة في مظاهرات شبابية عابرة، بل في ما يسميه أبوبكر الجامعي “علامة خلل في بنية النظام”، حين يخرج جيل جديد، بلا خلفيات أيديولوجية ولا انتماءات حزبية، ليقول بوضوح إن هناك فجوة تتسع بين الواقع المعيش والخطاب الرسمي.

يرى الجامعي أن “حراك جيل زد” ليس مجرد احتجاج على السياسات الاجتماعية أو الاقتصادية، بل هو تعبير عن أزمة أعمق، تتعلق بطبيعة السلطة نفسها. فحين يتحدث عن “بلوتوقراطية” يحكمها الأثرياء وأصحاب النفوذ، فإنه لا يكتفي بوصف حالة اقتصادية، بل يشير إلى انحراف في مسار الدولة الحديثة، حيث يتحول رأس المال إلى أداة حكم، وتصبح السلطة الاقتصادية بوابة للنفوذ السياسي.

لكن هل يمكن اختزال هذا الجيل في تمرد عاطفي على الواقع؟ أم أنه يمثل، كما يرى الجامعي، بداية تحول في الوعي الجمعي، من المطالبة بالحقوق إلى مساءلة المنظومة نفسها؟ يبدو أن هذا الجيل، الذي وُلد داخل العالم الرقمي، يحمل وعيًا جديدًا بالعالم، لا يشبه ما سبقه. فهو جيل لا ينتظر إذنًا من أحد ليعبّر، ولا يعتمد على وسائط تقليدية ليفهم. إنه الجيل الذي تعلم في فضاءات مفتوحة، كما يقول الجامعي: “أنتم السكان الأصليون للعالم الرقمي… لا يمكن لأي سلطة أن تفهمكم تمامًا لأنها لم تُولد في هذا الفضاء”.

تلك الجملة وحدها تختصر صراعًا عميقًا بين جيلين: جيل تشكّل داخل منظومة مغلقة، وآخر تربّى في فضاء بلا حدود. في الأول، الدولة هي التي تصنع الوعي؛ في الثاني، الوعي يصنع نفسه بنفسه. لكن الجامعي لا يرى في ذلك فقط تحديًا للسلطة، بل أيضًا فرصة لفهم جديد للمواطنة. فالشباب الذين يصنعون محتواهم بأنفسهم، ويفكرون جماعيًا على منصات مثل “ديسكورد” و”ريديت”، إنما يعيدون تعريف معنى المشاركة السياسية بعيدًا عن القوالب الحزبية.

في قراءته للأسباب البنيوية، يذهب الجامعي أبعد من النقد المباشر. فهو يرى أن الاختلال ليس في الأشخاص، بل في البنية ذاتها. يقول: “المشكلة ليست أن الحاكم فاسد أو الوزير لص، بل أن النظام نفسه ينتج هذا الخلل”. إنه تشخيص جريء، لأنه ينزع النقاش من المستوى الأخلاقي إلى المستوى الهيكلي: كيف تُوزَّع السلطة؟ من يملك القرار؟ ومن يراقب من؟

بهذه الأسئلة، يعيد الجامعي طرح ما يعتبره “العقد الغائب” بين الدولة والمجتمع: علاقة الثقة التي تآكلت بسبب غياب المساءلة واحتكار القرار داخل دائرة ضيقة.

ويضيف الجامعي أن “القطاع العمومي تُرك يضمحل عمداً لصالح القطاع الخاص”، ما أدى إلى مشهد اقتصادي تحكمه أقلية تتحكم في مفاصل الثروة والتعليم والصحة. هنا، لا يعود الحديث عن اقتصاد السوق الحر، بل عن “اقتصاد مُمَلك”، إن صح التعبير، حيث تُمنح الامتيازات بقرار سياسي، لا بمنطق الكفاءة أو المنافسة.

لكن الجامعي لا يسقط في التعميم أو التشاؤم. فهو يقرأ الحاضر بعين المؤرخ الذي يعرف أن كل نظام، مهما بدا مستقراً، يحمل في داخله بذور تحوله. لذلك يرى أن “جيل زد” ليس خطرًا على النظام، بل مرآة تكشف عيوبه البنيوية.

فمنذ حراك 20 فبراير إلى احتجاجات الريف، ثم إلى الحراك الرقمي الحالي، يتكرر السيناريو ذاته: صدمة، إنكار، ثم استيعاب متأخر. وكأن السلطة لم تتعلم بعد أن الإنصات المسبق أقل كلفة من الرد المتأخر.

في هذا السياق، يبدو أن المفارقة الكبرى في المغرب اليوم تكمن في التوازي بين صورتين: صورة بلد يُقدَّم في الخارج كنموذج للتنمية والاستقرار، وصورة داخلية تُظهر هشاشةً اجتماعية متزايدة. وقد أشار الجامعي إلى هذا التناقض حين قال: “في اللحظة التي كانت فيها مجلة إيكونوميست تحتفي بالمغرب كقصة نجاح، كان الشارع يرسل رسالة معاكسة تمامًا”.

إنها مفارقة تطرح سؤالاً مؤلمًا: هل أصبح خطاب “النجاح” وسيلة لإخفاء الفشل الاجتماعي؟ وهل يحق للمجتمع أن يحتفل ببريق البنية التحتية بينما ينهار التعليم والصحة في الخلفية؟

في تحليله لطبيعة السلطة، لا يتردد الجامعي في القول إن “القرار الحقيقي في المغرب ليس بيد الحكومة، بل في يد الملكية”. هذا التصريح لا يُقرأ كتحدٍ سياسي، بل كتوصيف بنيوي للعلاقة بين الرمزي والفعلي في نظام الحكم المغربي. فالملكية، بوصفها مركز القرار، تتحمل أيضًا مسؤولية إدارة التوازنات الاقتصادية والاجتماعية. لكن حين يتحول هذا التوازن إلى تركيزٍ مفرطٍ للثروة والقرار، تضعف المؤسسات الوسيطة، وتختفي القدرة على التعبير المنظّم، فيصبح الشارع هو البديل.

ومع ذلك، لا يرى الجامعي أن الحل في القطيعة أو الثورة، بل في إعادة تعريف معنى المشاركة. فهو يؤكد أن “الأحزاب رغم ضعفها تبقى ضرورة”، لأن التخلي عنها يعني انهيار فكرة التمثيل ذاتها.
غير أن الإشكال، كما يقول، هو أن النظام استنزف كل وسائطه: “حين فقدت الأحزاب رصيدها الشعبي، أصبحت الدولة عارية أمام الناس، بلا وسطاء ولا واجهات”.

بهذه الرؤية، يقدم الجامعي تحذيراً مزدوجاً:
من جهة، من خطر بلوتوقراطية جديدة تحكمها المصالح الاقتصادية لا المؤسسات الديمقراطية، ومن جهة أخرى، من فقدان الرابط السياسي الذي يمنح النظام شرعيته الشعبية.

إنها لحظة هشّة، حيث لم يعد الخطر في الشارع، بل في الصمت الذي يسبق الانفجار.

ومع أن الجامعي يبدو حازمًا في نقده، إلا أنه في العمق لا يدعو إلى اليأس، بل إلى الوعي. فحين يخاطب الشباب قائلاً: “أنتم انتصرتم بالفعل لأنكم غيرتم طبيعة النقاش في البلد”، فهو يشير إلى التحول الرمزي الذي أحدثه هذا الجيل: من خطاب الولاء إلى خطاب المساءلة، ومن رد الفعل إلى الفعل الواعي.

في النهاية، ربما السؤال الأهم ليس من يحكم، بل كيف يُعاد تعريف معنى المشاركة في زمن تتقاطع فيه الخوارزميات مع السياسات، ويصنع فيه المواطن وعيه خارج مؤسسات الدولة.

فحين ينكسر الاحتكار القديم للمعرفة والخطاب، يصبح كل جيل مدعوًّا لأن يسأل نفسه: هل نريد أن نُحكَم كما كنا، أم أن نحكم أنفسنا بمعنى جديد للانتماء والمسؤولية؟