قراءة تحليلية في ما تناولته قناة DW عربية – برنامج المسائية – دون تحريف أو إسقاطات خارج سياق النقاش العام.
في إحدى حلقات برنامج “المسائية” على قناة DW عربية، طُرح سؤال بدا في ظاهره بسيطًا: هل يمكن لجيل زد المغربي أن ينجح سياسيًا بعد أن نجح كرويًا؟
لكن خلف هذا السؤال، تختبئ طبقات من المعاني والتحولات التي يعيشها المغرب منذ عقدين على الأقل — تحولات تتقاطع فيها الرمزية الرياضية مع الخيبة السياسية، والطموح الجماعي مع الفردانية الصاعدة.
نحن هنا لا نعيد إنتاج ما قيل في البرنامج، بل نحلّله بعمق، دون تحريف أو تضليل، وفاءً لروح النقاش كما طُرح في “DW عربية”، وبهدف الغوص في الأسئلة التي لم تُطرح صراحة: هل يعيش المغرب ولادة جيل سياسي جديد؟ أم أننا أمام جيل يملك الوعي ولا يجد الوسيلة لترجمته إلى فعل؟
من الدوحة إلى الدار البيضاء: ميلاد وعي جماعي جديد
في النقاش الذي دار على DW عربية، بدا واضحًا أن لحظة مونديال قطر لم تكن مجرد إنجاز رياضي، بل ولادة لوعي جماعي مغربي جديد. حين رفع المغاربة علم بلادهم في شوارع العالم، لم يكن الأمر احتفالًا بالكرة فقط، بل إعلانًا غير رسمي عن انتماء وجداني متجدد.
تحدث الضيوف عن كيف وحّدت الرياضة من فرّقتهم السياسة، وكيف صارت صورة الأم التي تقبّل رأس ابنها اللاعب رمزًا لأمّة تستعيد توازنها العاطفي مع ذاتها.
لكن ما لم يُقال صراحة هو أن جيل زد — اللاعب، المشجع، المؤثر، والمواطن — وجد نفسه فجأة في قلب سردية وطنية جديدة: مغرب الفخر لا مغرب الانتظار.
جيل ما بعد الانتظارات
بحسب ما خلصت إليه “المسائية”، فإن جيل زد المغربي يختلف جذريًا عن الأجيال السابقة: لا ينتظر الدولة، بل يختبرها. لم يعش الصراعات الأيديولوجية بين اليمين واليسار، ولا المراحل الرمادية للانتقال الديمقراطي، لكنه وُلد في زمن الشفافية الرقمية والمقارنة المستمرة.
جيل يرى كل شيء، ويقارن كل شيء، ويشكّك في كل شيء. يعيش في عالم لا مكان فيه للشعارات الكبرى، بل للأداء الملموس. حين يسمع وعدًا حكوميًا، يذهب مباشرة إلى هاتفه ليرى إن كان قد تحقّق في الواقع. وحين يسمع مسؤولًا يتحدث عن الإصلاح، يقارنه بخطاب مشابه في بلد آخر.
إنه جيل لا يثور على السياسة بقدر ما يعريها من زينتها اللغوية. وهنا يكمن التحدي الأكبر: كيف يمكن لمؤسسات ما زالت تشتغل بمنطق “التمثيل” أن تتفاعل مع جيل يفكر بمنطق “التأثير المباشر”؟
فشل الوساطة لا فشل الجيل
واحدة من النقاط الجوهرية التي أثارها النقاش في DW هي أن عزوف الشباب عن السياسة لا يعني رفضهم للدولة، بل فقدانهم الثقة في وسائطها.
الأحزاب فقدت جاذبيتها، النقابات فقدت صدقيتها، والمجتمع المدني فقد حدّته الأولى. في المقابل، ظهر فضاء موازٍ اسمه “الإنترنت”، تحوّل إلى برلمان مفتوح، ووسيلة للتنظيم والاحتجاج والتأثير.
جيل زد يمارس السياسة من خارج المؤسسات، لكنه يمارسها بكثافة: حين يقاطع منتجًا، أو يدافع عن ضحية ظلم، أو يطلق حملة رقمية لمساندة قضية عادلة، فإنه يعيد تعريف السياسة من جديد — من صراع على السلطة إلى نضال من أجل المعنى.
جيل يتحدث بلغة العالم
هذا الجيل لا يعاني من “أزمة هوية” كما يُروّج أحيانًا، بل من “تعدد الهويات”. إنه يتنقل بسهولة بين الدارجة والإنجليزية والفرنسية والأمازيغية، بين ثقافة الأنمي الكوري وموسيقى كناوة، بين فخره بالمنتخب وحماسه لمحتوى عالمي.
لكن هذه الكونية التي تمنحه غنى ثقافيًا تجعله أيضًا يطالب بمواطنة أفقها الكرامة لا الولاء، والجدارة لا الوساطة.
في تحليله، أشار البرنامج إلى أن هذا الوعي المتعدّد يُربك الدولة، لأنها تواجه جيلاً لا يمكن إخضاعه بلغة الخوف، ولا جذبه بلغة الشعارات، ولا إسكاته بلغة الصمت. إنه جيل يتكلّم لغة العالم، ويطالب أن يسمعه بلده.
حين يفشل الاقتصاد في بناء الأمل
لا يمكن فهم جيل زد دون العودة إلى معركته اليومية مع الواقع الاقتصادي. إنه جيل تخرّج من الجامعات ليجد الأبواب موصدة، وواجه سوق شغل يعاقب الطموح ويكافئ العلاقات. وُعد بفرص رقمية، فوجد نفسه أمام بطالة رقمية؛ وُصف بأنه جيل المبادرة، لكنه يصطدم بإدارات لا تثق بالمبادرات.
في هذا السياق، يتحوّل النجاح الرياضي إلى تعويض رمزي عن الفشل البنيوي في الاقتصاد. اللاعب الذي يصعد من الأحياء الشعبية إلى نجومية العالم يصبح في نظر الشباب برهانًا على أن “العدالة ممكنة” ولو خارج السياسة.
لكن ما لم تستطع الدولة فهمه بعد هو أن هذه العدالة الرمزية ستتحول، إن لم تُترجم اجتماعيًا، إلى نقمة صامتة ضد المؤسسات.
نجاح رمزي في الرياضة.. وفشل بنيوي في السياسة
كما لاحظت “DW عربية”، فإن التناقض بين النجاح الكروي والإخفاق السياسي يعبّر عن أزمة أعمق: في الرياضة، النتائج تُقاس بالأداء، أما في السياسة فالأداء يُقاس بالولاء. في الأولى، من يعمل يفوز، في الثانية، من يرضي يصعد. لذلك يجد جيل زد نفسه ممزقًا بين منطقين متناقضين: منطق الكفاءة الذي يعيش به في حياته اليومية، ومنطق الترضيات الذي يرى به الدولة.
وهنا تنشأ فجوة الثقة: جيل ينجح كلما تحرّر من البنية، ويفشل كلما دخلها. ولهذا، فإن السؤال لم يعد هل يهتم الشباب بالسياسة، بل هل السياسة ما زالت تستحق اهتمام الشباب.
الملكية والتحدي الاجتماعي الجديد
تحليل “المسائية” أكّد أن المؤسسة الملكية كانت دائمًا الأكثر حسًّا تجاه التحولات الاجتماعية. خطابات الملك محمد السادس الأخيرة تحمل إشارات واضحة إلى ضرورة تجديد النخب، وإدماج الشباب، وإصلاح المدرسة المغربية.
لكن الإشكال يكمن في المسافة بين الرؤية والتنفيذ: فالإدارة ما زالت بطيئة، والنخب الحزبية ما زالت تتعامل مع التغيير كخطر لا كفرصة.
جيل زد ينتظر من الدولة نموذجًا يُشبهه: شفافًا، سريعًا، مبتكرًا. يريد أن يرى مشروع “المغرب الجديد” الذي يتحدث عنه الملك متجسدًا في التعليم، في العدالة الاجتماعية، في الاقتصاد الأخضر، وفي الثقافة الرقمية. إنه جيل يؤمن بالمؤسسة الملكية، لكنه يريد منها أن تحتضن طموحه لا أن تُهدّئ قلقه.
جيل المؤثرين.. ما بعد النخبة
ناقشت DW التحوّل من سلطة المثقف إلى سلطة المؤثر، وهو تحوّل جوهري في بنية الوعي الجماعي. جيل زد لا يقرأ المقالات الطويلة، لكنه يتفاعل مع مقطع مدته 60 ثانية يختصر فكرة ثورية. قد يرى البعض في ذلك انحدارًا في العمق الفكري، لكنه في الواقع انتقال من “المعرفة العمودية” إلى “المعرفة الشبكية”. المؤثر اليوم هو المثقف الشعبي الجديد، بشرط أن يستخدم تأثيره لبناء الوعي لا لتسويقه.
التعليم والإعلام: مختبران للقطيعة
في التوسّع على ما طرحته “المسائية”، لا يمكن تجاهل أن جيل زد تشكّل في بيئة تعليمية لم تواكب تحوّلاته، وإعلام عمومي لم يتحدث بلغته. المدرسة ما زالت تدرّس مضامين من القرن الماضي، وتقيّم التلاميذ وفق مقاييس لا تعترف بالإبداع ولا بالذكاء الرقمي. أما الإعلام العمومي، فغالبًا ما يظهر متردّدًا في الاقتراب من هموم الشباب، خائفًا من مخاطبتهم بلغتهم خوفًا من فقدان “الوقار المؤسساتي”.
النتيجة أن هذا الجيل وجد نفسه يُعلّم نفسه بنفسه.يتعلّم من اليوتيوب أكثر مما يتعلّم من الكتب، ومن النقاشات التفاعلية أكثر مما يتلقّى من الدروس. وهكذا، حين يصل إلى السياسة، يجدها نسخة أخرى من المدرسة: تلقين بلا مشاركة، تقييم بلا تحفيز، ومناهج بلا خيال.
إذا أراد المغرب أن يستوعب طاقة جيل زد، فعليه أن يبدأ بإصلاح المدرسة والإعلام، لا الأحزاب فقط.
القطيعة المعرفية بين الجيل وصنّاع القرار
في جوهر النقاش الذي طرحته DW عربية، يلوح سؤال أعمق: هل صانع القرار المغربي يفهم فعلاً كيف يفكر الجيل الجديد؟ إن أغلب النخب السياسية الحالية تنتمي إلى جيل ما قبل الإنترنت، جيل يرى في الشباب جمهورًا يجب توجيهه، لا شريكًا يجب الإصغاء إليه. أما جيل زد، فيرى في نفسه مساهمًا في صناعة القرار، حتى لو لم يُمنح صفة رسمية لذلك.
إنها قطيعة معرفية لا عمرية: بين من يعتقد أن الشرعية تُمنح من فوق، ومن يؤمن أن الشرعية تُكتسب من التفاعل.
بين من يثق في الخطاب، ومن لا يثق إلا في النتائج. ولعلّ أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن تتحول هذه القطيعة إلى انفصال وجداني طويل الأمد، إذا لم تُفتح قنوات جديدة للحوار.
هل نعيش بداية سياسة جديدة؟
ما يمكن استنتاجه من مجمل ما دار في “المسائية” هو أننا أمام ولادة بطيئة لسياسة جديدة، لا تُدار بالبيانات ولا بالمهرجانات الخطابية، بل بالإشارات الرقمية والمبادرات الفردية الجماعية. جيل زد لا يريد ثورة تهدم، بل تحديثًا يبني.
لا يطلب السلطة، بل المشاركة. إنه جيل الإصلاح الصامت، الذي يعيد تعريف السياسة من خلال الحياة اليومية.
خاتمة: وعي يبحث عن أفق
تحليل ما طرحته DW عربية – المسائية يقود إلى خلاصة دقيقة:جيل زد المغربي لا يعاني من أزمة هوية ولا من فقدان الانتماء، بل من انعدام الجسر بين وعيه ومؤسساته.
لقد نجح في بناء وعي جماعي بالانتماء، وفي تحقيق انتصارات رمزية أعادت للمغاربة فخرهم، لكنه ما زال ينتظر من المنظومة السياسية أن تعترف به كقوة اقتراحية، لا ككتلة صامتة.
قد ينجح هذا الجيل يومًا في السياسة كما نجح في الملاعب، إذا ما فُتح له المجال لأن يحلم بحرية ويشارك بكرامة. أما إن استمر الإغلاق والتأجيل، فقد يظل السؤال الذي طرحته DW عربية معلّقًا في فضاء المستقبل: هل ينجح جيل زد سياسيًا بعد أن نجح كرويًا؟