حين يُحاكم الألم: العدالة حين تتحول إلى مرآة لأزمة الثقة قراءة تحليلية في منشور رشيد البلغيتي

0
142
الصورة من صفحة رشيد البلغيتي

يقدّم رشيد البلغيتي في منشوره الأخير قراءة صادمة وواقعية لمشهد العدالة في المغرب من خلال الأرقام التي سردها القاضي حسن فرحان حول احتجاجات الشباب. يرى البلغيتي أن هذه الأرقام ليست مجرد معطيات قضائية باردة، بل مرآة تعكس واقعًا اجتماعيًا يغلي تحت السطح، وصورة مكثفة لعلاقة مأزومة بين الدولة وشبابها.

ومن خلال هذا المدخل، يدعو البلغيتي إلى فهم ما وراء لغة الأرقام، وإلى قراءة اجتماعية للألم الذي تحاول السلطة محاكمته بدل الإصغاء إليه.

البلغيتي ولغة الأرقام التي تُخفي الواقع

ينقل البلغيتي، استنادًا إلى ما قاله القاضي فرحان، أن حوالي 5780 شخصًا تم توقيفهم خلال الاحتجاجات، أُفرج عن 3300 منهم بعد تنقيط أمني، بينما أُحيل 2480 على القضاء، من بينهم 1473 في حالة اعتقال. ويقرأ البلغيتي هذه الأرقام على أنها تجسيد لخلل عميق في مفهوم العدالة، إذ يتساءل: هل كانت هذه الممارسات تعبيرًا عن دولة القانون، أم عن رغبة في تذكير الشباب بحدود الصوت والوجود؟

ومن خلال هذا التساؤل، يُبرز البلغيتي أن الإفراج عن أكثر من نصف الموقوفين لا يُظهر نجاعة النظام القضائي، بقدر ما يكشف عن عشوائية في التوقيفات وانفعال أمني سابق على أي تدبير مؤسساتي.
هنا نلمس نقد البلغيتي لآلية إدارة الأزمات، حيث يرى أن العدالة لم تكن فعلاً وقائيًا أو تصحيحيًا، بل مجرّد مرحلة لاحقة للتوتر الأمني.

حين يُحاكم الألم بدل الفهم

يُشير البلغيتي إلى أن ما غاب عن التصريحات الرسمية هو الوجه الإنساني للاحتجاجات، فالشباب الذين خرجوا إلى الشوارع لم يخرجوا حبًا في الفوضى، بل بحثًا عن معنى في واقع مغلق.
ويضرب مثالاً بالشباب العاملين في ضيعات تصدّر الطماطم إلى الخارج، دون أن يقدروا على شراء نفس المنتوج في بلدهم، وهي مفارقة يصفها البلغيتي بأنها كافية لتفجير الغضب.

ويطرح من خلالها سؤالاً جوهريًا:

هل كانت المحاكمات لحظة عدالة أم لحظة عجز دولة عن الفهم؟

تحليل هذا السؤال يقودنا إلى رؤية البلغيتي للعدالة بوصفها محاكمة لخيبة الأمل أكثر مما هي محاكمة لجريمة، أي أن الدولة تُحاكم الألم نفسه بدل أن تُعالجه.

جيل Z المغربي كما يراه البلغيتي

يتوقف البلغيتي عند نقطة مؤثرة حين يشير إلى أن بين الموقوفين أكثر من 160 قاصرًا ينتمون إلى جيلٍ رقميٍّ جديد يرى العالم من شاشة هاتفه لكنه يصطدم بواقع من البطالة والإقصاء.
ويصف هذا الجيل بأنه “يتنفس الحرية في الفضاء الرقمي ويُعاقَب حين يمارسها في الواقع”، ما يعكس صدامًا ثقافيًا بين زمنين: زمن الدولة التقليدية وزمن الشباب الشبكي.

ويُثير البلغيتي هنا تساؤلاً عميقًا: كيف يمكن لدولة لم تفهم بعد جيلها الرقمي أن تضع له حدودًا قانونية وأخلاقية؟

العدالة بين الردع والإصلاح

في تحليله، يرى البلغيتي أن بلوغ نسبة الإدانة نحو 90% لا يمكن أن يُقرأ بمعزل عن رغبة السلطة في الضبط الاجتماعي أكثر من تحقيق العدالة.
ويُقارن بين الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن “مراعاة الظروف الاجتماعية”، والرؤية السوسيولوجية التي ترى في المحاكمات الجماعية إعادة إنتاج للطاعة لا لإعادة الإدماج.

من خلال هذا التباين، يوضح البلغيتي الفجوة بين المعقول القضائي واللامعقول الاجتماعي، ويُلمّح إلى أن العدالة لا يمكن أن تكون محايدة في بلدٍ تغلي داخله التفاوتات.

الدولة في مواجهة جيلها الجديد

يرى البلغيتي أن جوهر الأزمة يكمن في أن الدولة لا تعرف هذا الجيل جيدًا، لكنها تعتقد أنها قادرة على احتوائه بالأدوات القديمة: بلاغات رسمية، انفتاح إعلامي ظرفي، وأحكام ثقيلة. ويُحذّر من أن هذا النمط من “الإدارة الرمزية للغضب” لا يُخمد الأزمة، بل يؤجّلها إلى انفجار قادم، حيث يعيد التاريخ إنتاج المشهد نفسه كل عقد من الزمن: شباب جديد، غضب جديد، وإجابات قديمة.

الأرقام كمرآة للفشل الجماعي

في ختام تحليله، يعتبر البلغيتي أن الأرقام التي عرضتها النيابة العامة ليست برهانًا على قوة العدالة، بل على ضعف السياسة وفشل الدولة في احتضان أبنائها. ويقول إن الشباب الذين “ربّاهم اليأس” لم يختاروا المواجهة مع القانون، بل وُجدوا فيها لأن الدولة لم تترك لهم خيارًا آخر.

ويترك البلغيتي الباب مفتوحًا أمام القارئ بأسئلته الموجعة:

هل يمكن لدولة أن تبني مستقبلها على محاضر الشرطة بدل محاضر الإصلاح؟
وهل يمكن أن تستعيد الثقة وهي تتعامل مع أبنائها كخطر محتمل لا كمستقبل ممكن؟