الإحالة إلى النيابة أم التنصل السياسي؟ مفارقة تصريح التويزي تكشف هشاشة الرقابة

0
140
صورة منأرشيف المنصات

ولله في خلقه شؤون…

هكذا بدا المشهد حين أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة إحالة ملف “طحين الورق” على النيابة العامة، وكأن البلاغ الحكومي أراد أن يطوي الصفحة بدل أن يفتحها. لحظةٌ تحمل أكثر من دلالة: فبدل أن تفتح الحكومة نقاشًا عامًا حول مسؤولياتها، لجأت مجددًا إلى القضاء، في تكرارٍ لأسلوب الإحالة كآلية لتصريف الحرج السياسي. لكن، ما الذي يخيف السلطة من النقاش العلني؟

حين تُمنع الجمعيات المدنية من التبليغ، وتُجرَّد من دورها في مراقبة الفساد، يصبح الإبلاغ امتيازًا للسلطة وحدها، لا حقًا للمجتمع. وهنا تكمن المفارقة: كيف يمكن أن يُطلب من المواطن الثقة في مؤسسات لا تسمح له بالمشاركة في حمايتها؟

حين يفضح الحزبُ الحكومة: مفارقة «الدقيق والورق» بين صوت البرلمان وصمت السلطة

في السياسة، لا شيء أكثر غرابة من أن تخرج الشرارة من قلب البيت نفسه. هذا ما حدث في المغرب حين تحوّل تصريح عابر من داخل البرلمان إلى زلزال سياسي، كشف عمق التناقض داخل الأغلبية، وأعاد طرح السؤال حول من يملك حق التبليغ عن الفساد ومن يملك سلطة إسكاته.

القضية بدأت بعبارةٍ بدت في ظاهرها مجازًا، لكنها أحرقت المعنى في جوفها: «طحن الورق بدل الدقيق». قالها رئيس فريق حزب الأصالة والمعاصرة، أحمد التويزي، وهو الحزب الذي يتقاسم السلطة مع التجمع الوطني للأحرار ويقود وزارة العدل نفسها. فجأةً، وجدنا أنفسنا أمام مشهد نادر: حزبٌ مشارك في الحكومة يتّهم قطاعات اقتصادية بالحيف والفساد، في ملفّ يطال قوت المواطن الفقير.

تصدّع داخل السلطة أم صحوة في الضمير؟

حين خرج الوزير المنتدب مصطفى بايتاس ليردّ بأن النيابة العامة قد «تحركت»، بدا أن الحكومة اختارت طريق الدفاع المؤسساتي بدل المواجهة السياسية. لكن هل حقًّا تحرّكت الدولة أم أنها لجأت إلى لغة القانون لتُخمد اشتعال السياسة؟
وهل يعقل أن تُتَّهم شركات كبرى بمزج الورق بالدقيق، ثم يُكتفى ببلاغ عن «بحث قضائي قائم» دون موقف حكومي واضح يطمئن الرأي العام؟

اللافت أن هذا الصراع لم يأت من المعارضة، بل من جوف الأغلبية نفسها، ما يفتح سؤالاً أعمق: هل يعيش حزب الأصالة والمعاصرة ازدواجية في الخطاب بين ما يقوله في البرلمان وما يُمارسه في الحكومة؟ أم أن التويزي عبّر عمّا يُخفيه كثيرون داخل دوائر القرار، لكنهم لا يملكون جرأة الإفصاح؟

الورق والدقيق… رمزان لمشهد سياسي مضطرب

في ثقافة المواطن البسيط، الدقيق هو رمز الحياة اليومية. حين يُمسّ خبزه، تُمسّ كرامته. لذلك لم يكن تصريح التويزي مجرد «خطأ في التعبير»، بل ارتجاجًا في الوعي الجمعي للمغاربة الذين يعيشون منذ سنوات على وقع تضخم الأسعار وشبهات الاحتكار.

لكن الرمزية أعمق من ذلك. فالورق في القصة ليس مجرد مادة مضافة للدقيق، بل استعارة لفسادٍ يُغطّى بالوثائق والفواتير والتقارير. وحين قال التويزي لاحقًا إنه يقصد “تزوير الفواتير”، كان يصف جوهر المشهد المغربي الراهن: الفساد الذي صار يتقن لغة القانون نفسه.

حين يقف البرلمان على حافة الحكومة

هنا يظهر وجه المفارقة: في الوقت الذي أقرّت فيه وزارة العدل بقيادة عبد اللطيف وهبي قوانين تحدّ من قدرة الجمعيات والمجتمع المدني على التبليغ عن الفساد ضدّ السياسيين، يخرج برلماني من الحزب ذاته ليقوم بالفعل نفسه داخل قبة البرلمان! هل هي مصادفة؟ أم تناقض سياسي صارخ؟

هذه اللحظة تكشف هشاشة العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل وتضع الدولة أمام سؤال مؤلم:
كيف يمكن أن نمنع الجمعيات من التبليغ عن الفساد، بينما من داخل البرلمان نفسه تُطلق اتهامات تزلزل الثقة في مؤسسات الرقابة والمحاسبة؟ أليست المفارقة أن من يُفترض أن يحمي القانون، أصبح يشتكي من عجزه عن مواجهة الفساد؟

النيابة العامة كدرع سياسي؟

عندما تُحيل الحكومة أي ملف إلى النيابة العامة، فهي تُعلن ضمنيًا أنها لا تملك الجرأة على التدخل أو الموقف السياسي. لكن، أليس في ذلك نوع من “التنصل المسؤول”؟ فالتحقيقات القضائية لا تُسعف دائمًا في طمأنة الرأي العام، لأنها بطبيعتها بطيئة ومحاطة بالسرية، بينما الأزمة في جوهرها سياسية وأخلاقية قبل أن تكون قانونية.

لقد لجأت الحكومة إلى لغة المؤسسات لتفادي مواجهة الأسئلة الجوهرية: من المسؤول عن مراقبة جودة المواد المدعمة؟ ولماذا لا تُعلن نتائج التحقيقات السابقة في قضايا مشابهة؟ ولماذا حين يتحدث أحد من داخل النظام عن الفساد، يُطوّق بالانتقادات ويُتهم بـ«المبالغة»؟

لقد تحوّل التبليغ عن الفساد…

لقد تحوّل التبليغ عن الفساد من ممارسة مدنية إلى جريمة محتملة، ومن واجب وطني إلى مخاطرة شخصية. ومع كل قانون جديد يضيّق هامش المبادرة، يتقلّص الإيمان الجماعي بجدوى الإصلاح من الداخل. لأن الدولة حين تخشى المبلّغ، فهي في العمق تخشى مواجهة مرآتها.

الضمير العام بين الصمت والريبة

الفضيحة — أو الحادثة كما يسميها البعض — ليست سوى مرآة لعلاقة مأزومة بين المواطن والدولة. فالشعب الذي فقد الثقة في الآليات الرسمية للمحاسبة، يرى اليوم برلمانيًا من الحزب الحاكم يصف ما يعيش به الفقراء بأنه “ورق مطحون”. أليست هذه الجملة وحدها كفيلة بأن تهزّ صورة السلطة؟ وهل يملك النظام السياسي في المغرب شجاعة تحويل هذه الصدمة إلى لحظة مراجعة جماعية؟

خاتمة مفتوحة: السياسة حين تأكل نفسها

القصة ليست في “الدقيق والورق” فقط، بل في التحوّل الرمزي الذي يكشفه هذا الملف: إنها لحظة يتحدث فيها أحد أبناء النظام عن فساد النظام، فتردّ الحكومة بأن “القانون يتحرك”. كأننا أمام مشهدٍ يختصر كل معضلات الحكم في المغرب: من يجرؤ على الكلام يُتهم بالتهويل، ومن يصمت يُتهم بالتواطؤ.

وهكذا تبقى الحقيقة، مثل الدقيق الجيد، تُغربل بين أيدي السلطة، فيما الورق — رمادُ القوانين والبلاغات — يتطاير في وجه من يبحث عن الخبز والعدالة معًا.

ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يحتاج الإصلاح في المغرب إلى شجاعة قول الحقيقة، أم إلى شجاعة تحمّلها؟