الخلفي: قرار مجلس الأمن يُسقط وهم “تصفية الاستعمار” ويكرّس السيادة المغربية على الصحراء

0
235

قرار مجلس الأمن وإخراج الصحراء من اللجنة الرابعة: من منطق النزاع إلى منطق السيادة

ليس قرار مجلس الأمن الدولي الأخير حول الصحراء المغربية مجرد وثيقة دبلوماسية عابرة أو بيان دعم سياسي تقليدي، بل هو لحظة مفصلية في مسار طويل من التحول الهادئ الذي خاضه المغرب على مدى عقود. لحظةٌ تتجاوز منطق الدفاع إلى منطق التأسيس، ومن خطاب الترافع إلى خطاب السيادة.

حين تحدّث الوزير السابق والباحث المتخصص في قضايا الصحراء، مصطفى الخلفي، عن كون القرار يشكّل “منعطفًا قانونيًا وسياسيًا نوعيًا”، لم يكن يقف عند حدود التحليل القانوني فحسب، بل كان يرسم معالم مرحلة جديدة في تاريخ هذا الملف، مرحلةٍ تتهيأ فيها القضية لتغادر نهائيًا أروقة اللجنة الرابعة لتصفية الاستعمار، نحو فضاء سياسي قانوني جديد يعترف بالمغرب كفاعل سيادي لا كطرفٍ في نزاع.

فمنذ عام 1975، تاريخ استرجاع الأقاليم الجنوبية، لم يعد الحديث عن “تصفية استعمار” يعبّر عن واقع الصحراء، بقدر ما أصبح يعبّر عن ذهنية أممية متقادمة لم تستوعب التحولات التي عرفها الميدان. بقاء الملف في اللجنة الرابعة كان يشوّش على المسار السياسي، لأن تلك اللجنة، بطبيعتها، تنظر في حالات الاحتلال الاستعماري، لا في نزاعات السيادة التي تحسمها البيعة، والشرعية التاريخية، واتفاقيات دولية مثل اتفاق مدريد.

القرار الأممي الجديد لا يكرّس فقط دعم مبادرة الحكم الذاتي، بل يفصل بدقة بين مبدأ تقرير المصير كما كان يُطرح في التسعينات، وبين الرؤية الجديدة التي تحصر هذا المبدأ في إطارٍ واحد: الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. وهو تطور قانوني كبير، لأنه يُخرج النقاش من دائرة الاحتمالات المفتوحة – التي كانت تتضمن حتى خيار الانفصال – إلى منطقٍ تعاقديٍّ يقوم على التفاوض حول الصيغة لا حول السيادة.

تاريخيًا، لا يمكن تجاهل الشبه بين هذا المنعطف وبين قضية سيدي إفني في ستينيات القرن الماضي، حين اختارت الأمم المتحدة طريق التفاوض بدل تصفية الاستعمار، فانتهى الأمر باسترجاع المغرب لإفني سنة 1969. إنها سابقة تؤكد أن الدبلوماسية المغربية، كلما توفرت لها الأرضية القانونية والسياسية الصلبة، استطاعت أن تفرض منطقها الهادئ والعميق على منطق الضجيج الإيديولوجي.

اليوم، بعد قرابة نصف قرن من التجاذبات، يبدو أن الأمم المتحدة نفسها بدأت تتبنى مقاربة مغربية المنشأ: لا استفتاء، لا انفصال، بل حل سياسي توافقي داخل السيادة الوطنية. فهل يمكن القول إن المسار الأممي بات أقرب من أي وقت مضى إلى الاعتراف الواقعي بمغربية الصحراء؟

إن ما تحقق اليوم – كما يصفه الخلفي – هو ثمرة استراتيجية متكاملة قادها الملك محمد السادس، واستندت إلى رؤية بعيدة المدى اشتغلت على محاور متشابكة: دبلوماسية الحزم، والانفتاح الاقتصادي، وتوسيع الشرعية القانونية. فمن تحرير معبر الكركرات إلى العودة إلى الاتحاد الإفريقي، ومن فتح القنصليات الأجنبية في العيون والداخلة إلى الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، شكّل كل حدث لبنة في بناء هذا التحول الاستراتيجي الذي نعيشه اليوم.

لكنّ ما يميّز هذا التحول هو أنه لم يتحقق بالقوة، بل بذكاء استراتيجي وتراكم ناعم. المغرب لم يكن في موقع قوة عددية أو مالية، بل في موقع قوة الفكرة؛ فكرة السيادة المشروعة، ورفض الازدواجية، وامتلاك رؤية واضحة لعلاقاته مع العالم.

في خلفية هذا القرار أيضًا بُعدٌ تنمويٌّ لا يقل أهمية عن البعد القانوني: فالمغرب اليوم لا يراهن على الصحراء كحدود جغرافية، بل كمنصة اقتصادية في قلب إفريقيا وأطلسها. مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر والموانئ الكبرى والبنيات التحتية تجعل من القرار الأممي عاملَ ثقةٍ إضافيًّا للمستثمرين الدوليين، ومحرّكًا لدينامية اقتصادية تُحوّل الجنوب إلى فضاء واعد للتنمية الأطلسية والساحلية.

ومع ذلك، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل سيترجم هذا التحول الأممي إلى إخراج فعلي للملف من اللجنة الرابعة، أم سنظل في انتظار ترجمة سياسية لموقفٍ قانوني بدأ يتبلور؟ هل سيستوعب خصوم المغرب أن المرحلة الجديدة لا تحتمل منطق المناورة بل تفرض منطق الشراكة؟ وهل ستنجح الدبلوماسية المغربية في تحويل هذا الاعتراف الضمني إلى إجماع دولي صريح حول مغربية الصحراء؟

ما هو مؤكد أن قرار مجلس الأمن الأخير لا يختتم مرحلة، بل يفتتح أخرى: مرحلة ما بعد النزاع، وما بعد الشك، وما بعد الخطاب الدفاعي. إنها لحظة مغربية بامتياز، تؤكد أن الرؤية الاستراتيجية قد تنتصر ببطء، لكنها حين تنتصر، تُعيد رسم الخرائط لا في الجغرافيا فقط، بل في الوعي الدولي أيضًا.