لا يكمن جوهر التحولات المؤسساتية دائماً في الأرقام الظاهرة في قوانين الميزانيات، بل في ما تعكسه من إعادة ترتيب خفي لمراكز الثقل داخل الدولة. وفي هذا السياق، تكشف الميزانية الفرعية لوزارة الاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية برسم سنة 2026 عن توجه يُرجّح كفة المراكز الجهوية للاستثمار على حساب الإدارات المركزية. غير أن هذا التحول يطرح أسئلة أعمق: هل نحن أمام انتقال حقيقي للسلطة والقرار نحو الجهات؟ أم أمام إعادة توزيع شكلية للموارد دون قدرة على تغيير قواعد اللعبة؟
أرقام الميزانية… إشارات تتجاوز الحسابات
ترتفع ميزانية تسيير الوزارة بشكل طفيف من 387 إلى 394 مليون درهم، لكن الجزء الأكبر من هذا الارتفاع يذهب إلى المراكز الجهوية للاستثمار التي ستستحوذ على 68% من ميزانية التسيير، بعد رفع اعتماداتها بنسبة 6%. في المقابل، تنخفض نفقات التجهيز والمعدات داخل الوزارة بنسبة 15%.
هذا التحول يعكس مقاربة جديدة قوامها: الوزارة تتقلّص في الرباط لتتوسع في الجهات.
لكن هذا التوسع لا يعني بالضرورة انتقالًا للقرار، فقد حافظت الدولة على نفس مستويات التمويل المرتبطة بالاستثمارات الكبرى، من خلال صندوقي دعم المشاريع والمنظومات الصناعية، اللذين يظلان تحت المراقبة والتدبير المركزي المباشر.
اللامركزية الاستثمارية… بين النوايا والقدرات
تقديم موارد أكبر للمراكز الجهوية يضعها في موقع مسؤولية جديدة، لكن السؤال هو: هل تمتلك هذه المراكز الكفاءات ووسائل التدبير اللازمة لتحويل الميزانيات إلى مشاريع؟
فالوزارة أعلنت عن مخطط تكوين لثلاث سنوات واعتماد منهج جديد لتدبير الموارد البشرية، ما يعني أنها تدرك أن التحدي الحقيقي ليس في التمويل، بل في القدرة على بناء جهاز إداري قادر على التفاوض، جذب المشاريع، وتدبير العلاقة المعقدة بين المستثمر والقرار المحلي.
هنا يصبح رهان الاستثمار ليس اقتصادياً فقط، بل ثقافياً وإدارياً:هل لدينا عقليات إدارة محلية تؤمن بالمساءلة، المبادرة، والنجاعة؟ أم أن البنيات الذهنية ما تزال أسيرة المركز تنتظر التعليمات؟
الشفافية والمسؤولية… من الأرقام إلى المحاسبة
من المرتقب تفعيل المرصد الوطني للاستثمار ونشر لوحات قيادة موحدة لقياس مردودية السياسات الاستثمارية.
هذا التحول باتجاه الشفافية يفتح الباب أمام سؤال آخر: من سيحاسَب عند تعثر المشاريع؟ الجهة؟ أم الوزارة؟ أم لا أحد كما جرت العادة؟ فالأرقام حين تصبح واضحة، تصبح أيضاً محاكم للصيغ الإدارية المتنافسة.
الخاتمة التحليلية
إن ما يجري اليوم ليس مجرد تعديل ميزانياتي، بل محاولة لإعادة كتابة هندسة السلطة الاقتصادية في المغرب. ومع ذلك، يظل هذا التحول معلقاً بين مشروعين:
-
مشروع يمنح الجهة سلطة حقيقية، وقدرة على اتخاذ القرار، وتحمّل المسؤولية.
-
ومشروع يكتفي بنقل الأعباء إلى الأطراف بينما يحتفظ المركز بالقرار.


