من صندوق الأمل إلى صندوق الأزمة… حين تتبخر الوعود وتُترك المقاولات الصغيرة وحيدة في مواجهة الإفلاس

0
133

بين الوعود والواقع… المقاولات الصغيرة جدًا في مرمى الأزمة

رغم الوعود الحكومية المتكررة بضخِّ أكثر من 1.4 مليار دولار لدعم التشغيل وريادة الأعمال، تكشف الأرقام عن واقعٍ مغاير تمامًا: أكثر من 33 ألف شركة ناشئة أفلست في عام 2024، فيما تتوقع التقديرات أن يتجاوز العدد 40 ألفًا مع نهاية السنة.

فهل نحن أمام أزمة عابرة، أم أمام نموذج اقتصادي ينهار بصمت؟

البيان الصحفي الذي أصدرته الكونفدرالية المغربية للمقاولات الصغيرة جدًا والصغرى والمتوسطة، كان غنيًا بالمعطيات والأرقام الدقيقة، مما جعله يفتح الباب أمام قراءة نقدية أعمق للسياسات العمومية ذات الصلة.
فيما يلي صياغة صحافية تحليلية جديدة له، بأسلوب يزاوج بين المعطى المهني والبعد التحليلي، ويطرح الأسئلة التي تحفّز النقاش العمومي حول واقع المقاولات الصغيرة جدًا في المغرب.

حلم ريادة الأعمال… يتحول إلى كابوس إداري

منذ سنوات، تراهن الحكومة على خطاب “تشجيع المقاول الشاب” و”دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة”، لكن خلف هذا الخطاب البراق يعيش آلاف رواد الأعمال مأساةً صامتة تبدأ من البنوك ولا تنتهي عند مكاتب الضرائب.

فبحسب دراسة للهيئة المغربية للمقاولات الصغرى والمتوسطة، 90% من هذه المقاولات تواجه عراقيل في الحصول على التمويل بسبب الشروط البنكية المعقدة، فيما يعتبر 76% من المقاولين الأعباء الضريبية والاجتماعية عبئًا يفوق طاقتهم.

وسط هذا الاختناق الإداري، تبرز مبادرات حكومية جديدة تحمل وعودًا بالإنقاذ… لكن هل تصب فعلًا في مصلحة المقاولات الصغيرة جدًا، أم تعيد إنتاج نفس الحلقة المفرغة؟

صندوق دعم الاستثمار… أمل جديد أم مرآة لتهميش المقاولات الصغيرة جدًا؟

قبل أسابيع، أطلقت الحكومة صندوقًا استثماريًا جديدًا قيل إنه موجّه للمقاولات الصغرى والمتوسطة. غير أن القراءة المتأنية لشروطه تكشف أنه بعيد المنال عن “الصغيرة جدًا” التي تشكل العمود الفقري للنسيج الاقتصادي الوطني بنسبة 98.4% من مجموع المقاولات وتشغّل أكثر من 83% من اليد العاملة المغربية.

فهل يمكن اعتبار هذا الصندوق دعمًا فعليًا، أم مجرد مبادرة رمزية تُكرّس الإقصاء بدل الحدّ منه؟

شروط إقصائية تسائل منطق العدالة الاقتصادية

شروط الاستفادة من الصندوق، وعلى رأسها إلزام المقاولات باستثمار لا يقل عن مليون درهم، تطرح أكثر من علامة استفهام. فكيف يُعقل أن تُطالب وحدة مهنية بالكاد تضمن استمرارها بهذا المبلغ؟ ثم أين هي آليات الضمان البنكي المرنة التي تراعي هشاشة هذه الفئة؟

وهل يُعقل أن يظل الوصول إلى التمويل حلمًا مؤجلًا رغم وجود برامج رسمية مثل “تمويلكم” التي لم تصل بعد إلى أهدافها؟

القطاع غير المهيكل… منافس بلا قواعد

في المقابل، يزدهر القطاع غير المهيكل، حيث يشتغل مئات الآلاف من الأشخاص خارج أي إطار قانوني أو ضريبي. النتيجة؟ منافسة غير عادلة تُجهز على ما تبقى من الشركات المهيكلة وتُفرغ السوق من الثقة.
فكيف يمكن لمقاول يؤدي الضرائب ويؤمن العمال أن يصمد أمام من يعمل خارج القانون بلا تكلفة؟

هكذا يجد المقاول الصغير نفسه محاصرًا بين بيروقراطية الدولة من جهة، ولا عدالة السوق من جهة أخرى.

خطاب حكومي مثير للأسئلة

اللافت أن إطلاق الصندوق بمدينة الرشيدية رافقه خطاب رسمي تحدث فيه رئيس الحكومة عن “سهولة حصول المقاولات الصغيرة جدًا على التمويل البنكي”، وهو تصريح اعتبره كثيرون منفصلًا عن الواقع الميداني.

فهل يدرك المسؤولون حقًا حجم المعاناة اليومية التي يعيشها المقاولون الشباب؟ وهل يمكن بناء ثقة اقتصادية على عبارات إنشائية لا تلامس الحقائق على الأرض؟

الضغط الضريبي… خنق ممنهج للمقاولات الصغيرة

بدل أن يشجع مشروع قانون المالية لسنة 2026 هذه الفئة على النمو، رفع الضريبة عليها من 10% إلى 20%، لتصبح مساوية للشركات الكبرى التي تستفيد من امتيازات وضمانات متنوعة.

فهل يُعقل أن تُعامل مقاولة صغيرة مثل مقاولة كبرى في الضرائب، بينما تختلف إمكانياتهما ومسؤولياتهما أضعافًا مضاعفة؟ أم أن هذا ما يُسمى “إصلاحًا ضريبيًا” على الورق، و”خنقًا ممنهجًا” في الواقع؟

احتقان اجتماعي يلوح في الأفق

ما بين احتجاجات الشباب (#GenZ212) والغضب الصامت للمقاولين الصغار، تبدو مؤشرات الاحتقان الاجتماعي واضحة ومقلقة.

فعندما تُقصى فئة تمثل الغالبية من الدعم العمومي ومن القرار الاقتصادي، يصبح الشارع المنفذ الوحيد للتعبير.

هل نحن أمام بداية تشكّل حركة وطنية للمقاولات الصغيرة جدًا؟ وهل يمكن للحكومة تحمّل تبعات تجاهل هذا الصوت الاقتصادي الذي بدأ يتحول إلى صوت اجتماعي؟

نداء للحكامة والإصلاح الحقيقي

الكونفدرالية المغربية للمقاولات الصغيرة جدًا والصغرى والمتوسطة لا تكتفي بالانتقاد، بل تقدم مقترحات عملية، أبرزها:

  • مراجعة شروط الصندوق لجعله في متناول الصغار فعلاً لا شعارًا.

  • إنشاء بنك عمومي خاص بالمقاولات الصغيرة جدًا على غرار التجربة الفرنسية Bpifrance.

  • اعتماد ضريبة تصاعدية عادلة تحمي المقاولات الهشة.

  • فتح حوار وطني حقيقي يُشرك الفاعلين الميدانيين بدل الاكتفاء بالباطرونا.

الخلاصة: بين الخطاب والواقع

ما الذي يمنع الحكومة من الإصغاء لصوت يمثل 98% من نسيج الاقتصاد الوطني؟ هل هناك إرادة سياسية حقيقية لتصحيح التوازن الاقتصادي، أم أن الأولوية ما زالت تُمنح لرأس المال الكبير؟

وأخيرًا، إلى متى ستظل “المقاولات الصغيرة جدًا” ضحية السياسات الكبرى؟