في لحظة تبدو أقرب إلى انفجار ثقة داخل إحدى أكثر البنى حساسية في المشهد الإعلامي المغربي، فجّرت تسريبات اجتماع لجنة أخلاقيات المهنة والقضايا التأديبية التابعة للجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر، أزمةً لا يمكن التعامل معها كحادث عرضي أو مجرد انزلاق لفظي. ما ظهر في التسجيل – المنسوب لأعضاء اللجنة في ملف الصحافي حميد المهدوي – لم يقدم صورة عن مؤسسة تدبّر “تنظيماً ذاتياً” كما يفترض الدستور، بل عن فضاء يشتغل تحت تأثير انفعالات، وتحامل، وخلط بين السلطة التقديرية والانتقام الشخصي.
وهذا بالضبط ما حاول حزب العدالة والتنمية التقاطه في بيانه الأخير، ليس بمنطق الدفاع عن المهدوي فقط، بل بمنطق استثمار اللحظة لتعرية هشاشة الإطار القانوني والسياسي الذي تشتغل داخله اللجنة المؤقتة منذ سنوات من التمديد.
أزمة “التنظيم الذاتي”: عندما تسقط الفكرة أمام الممارسة
الفكرة الأساسية في التنظيم الذاتي للصحافة تقوم على استقلالية المهنة عن السلطة السياسية، وعلى تمكين الجسم الصحافي من وضع قواعده ومحاسبة نفسه. لكن التسريب – سواء اتُّفق أو اختُلِف حول مصدره – يضع هذا النموذج في موضع مساءلة قاتلة:
كيف يمكن لمؤسسة فقدت شرعيتها القانونية منذ انتهاء مدة ولايتها، واستمر وجودها بقرارات تمديد حكومية، أن تمارس سلطة أخلاقية وتأديبية على صحافيين يفترض أن يحاسبوا السلطة نفسها؟
الخطر، كما يظهر من رد فعل البيجيدي، ليس في الكلمات النابية أو الانفعالات المسجّلة، بل في انكشاف واقع بنيوي: لجنة فقدت شرعيتها القانونية، واستمرت بفضل مظلة سياسية، ففقدت تلقائياً استقلاليتها الرمزية والأخلاقية.
البيجيدي… بين التقاط الفرصة ومراكمة حججه القديمة
في بيانه، ظهر العدالة والتنمية كمن وجد نفسه أمام فرصة لتأكيد ما كان يحذر منه منذ أشهر:
-
أنّ اللجنة المؤقتة فقدت سندها القانوني،
-
وأن الحكومة هي التي تُطيل عمرها “خارج القانون”،
-
وأن الاستمرار في شرعنة هذه الهيئة بقرارات إدارية ينسف فلسفة التنظيم الذاتي من أساسه.
لكن، أبعد من المواقف السياسية، يمكن قراءة البيان كرسالة مزدوجة:
● رسالة إلى الحكومة:
أنتم تتحملون مسؤولية ما وقع لأنكم وضعتم لجنة فاقدة للشرعية في موقع سلطة أخلاقية فوق الصحافيين.
● ورسالة إلى الجسم الصحافي:
إن الصمت عن وضع هجين، بلا أرضية قانونية، هو ما سمح بانفجار ما سمعه المغاربة في التسجيل.
هذه ليست دفاعاً مجانياً عن الصحافي المهدوي فقط، بل محاولة لإعادة تموضع سياسي للحزب داخل ملف الحريات والتدبير المؤسساتي بعد فترة طويلة من الصمت النسبي.
التحقيق القضائي… صراع حول من يقود المعركة
حين يطالب الحزب بتحقيق قضائي عاجل، فذلك يعكس إدراكه أن القضية لم تعد داخلية تخص المهنة، بل تحولت إلى قضية رأي عام تمس:
-
سمعة التنظيم الذاتي،
-
مصداقية المؤسسة القضائية،
-
وحقوق صحافي قد يجد نفسه ضحية لأحكام أخلاقية مسبقة داخل لجنة يفترض أنها مستقلة.
التسجيل – بصرف النظر عن مشروعية تسريبه – يكشف هشاشة مسافة الأمان المفترضة بين الصحافي ومؤسسة يفترض أنها تحمي أخلاقيات المهنة لا أن تمارس عليه سلطة تأديبية متحيّزة.
الاستقالة أو الإقالة… إعلان موت لجنة كانت تمشي بلا شرعية
دعوة البيجيدي إلى استقالة أو إقالة أعضاء اللجنة المؤقتة ليست مجرد موقف احتجاجي.
إنها عملياً إعلانٌ عن انتهاء صلاحية الإطار الحالي للتنظيم الذاتي وإن كان مستمراً شكلياً.
فحين تفقد مؤسسة:
-
شرعيتها القانونية،
-
ثم مصداقيتها الأخلاقية،
-
ثم ثقة الجسم الصحافي والرأي العام،
تكون قد فقدت كل مقومات وجودها.
والأخطر: أن الأزمة كشفت أن استمرار اللجنة لم يكن بدافع “إنقاذ مرحلة انتقالية”، بل بفعل منطق إدارة سياسية لفراغ قانوني أصبح الآن مكشوفاً ومحرجاً.
سحب مشروع القانون… ورطة تشريعية للحكومة؟
مطالبة البيجيدي بسحب مشروع القانون الخاص بالمجلس الوطني للصحافة من مجلس المستشارين حتى ظهور نتائج التحقيق، ليست تقنية كما قد يبدو.
إنها تكتيك سياسي واضح:
-
تعطيل المسار التشريعي،
-
إحراج الحكومة،
-
وربط إصلاح المجلس بضرورة إعادة بناء الثقة من الصفر.
بمعنى آخر: الحزب يقول إن أي إصلاح مؤسساتي فوق أساس متصدّع سيكون بلا معنى.
خلاصة تحليلية: ما الذي تكشفه الأزمة حقاً؟
هذه ليست أزمة تسريب، بل أزمة بنية.
وهي تسلط الضوء على ثلاث حقائق:
-
فشل النموذج الحالي للتنظيم الذاتي للصحافة الذي تحوّل إلى جهاز إداري-شبه-حكومي فاقد للشرعية.
-
وجود فراغ قانوني تستغله السلطة التنفيذية لإدارة مؤسسة يفترض أن تكون مستقلة.
-
تنامي شعور داخل الجسم الصحافي بأن المجلس لم يعد يمثلهم، وأن القرارات الأخلاقية أصبحت تُدار بمنطق شخصي لا مؤسساتي.


