يساريون بلا “ماركسية”.. إسلاميون بلا “ثورية”.. وبرلمان يكتشف مبكرًا أن زمن الانتخابات بدأ فعلا

0
95

من الصعب ألا يلتقط المراقب تلك الرعشة السياسية التي هزّت قبة البرلمان أمس. ليس لأن النقاش كان محتدمًا حول قانون ينظم مهنة العدول، فهذا أمر روتيني في برلمان يزدحم بالقوانين. بل لأن “الاشتباك اللفظي” الذي وقع لم يكن مجرد سوء تقدير لغوي، ولا مجرد انفعال طارئ. كان أشبه بانكشاف مبكر لما ستبدو عليه انتخابات 2026: معركة هوية سياسية قبل أن تكون منافسة انتخابية.

ما حدث داخل الجلسة بدا كأنه قلبٌ لمرآة السياسة المغربية: اليساريون يهربون من “الماركسية”، والإسلاميون يُستقبلون بعبارات “الثورة” التي لم يدّعوها، والوزير يتصرّف كمن يكتب بيانًا مضادًا داخل برلمان تحول للحظات إلى خشبة مواجهة لا قاعة تشريع.

أول الرعد: حين تقاطع السياسة القانون

بدأ كل شيء من تعقيب البرلمانية هند بناني الرطل، التي قرأت مشروع القانون كمن يضع يده على خلل بنيوي لا مجرد مقتضى تقني. قالت إن النص “تراجع” عن مخرجات الحوار القطاعي، وإنه يقوّض ما مكّنه الإصلاح سابقًا من ضمانات، بل ويهدد مبدأ المناصفة ويمسّ بموقع المرأة العدل.




كانت مداخلة محمّلة بروح نقدية واضحة، وهذا طبيعي. غير أن وزير العدل لم يرَ فيها سوى حكم مسبق، بل خطابًا لا يرى تفاصيل المشروع ولا مساره القانوني، قبل أن يفجّر العبارة التي أطلقت الشرارة:
“هذا بيان قيادة الثورة.”

عبارة ذات وزن رمزي كثيف. فـ“الثورة” ليست مجرد استعارة؛ إنها لفظ سياسي يوقظ ذاكرة الصدامات، ويستدعي سجلًا كاملاً من الاتهامات بين الإسلاميين وخصومهم.

عندما يصبح التشريع ساحة معركة

لم يكن غريبًا أن يطالب نواب العدالة والتنمية الوزير بسحب عبارته باعتبارها “غير لائقة”، لكن الغريب أن الوزير لم يكتفِ بالتمسّك بها، بل قدّم مرافعة مضادة قال فيها إنه يرد “بالقوة نفسها التي يهاجم بها”. وكأنه يشير ضمنًا إلى أن النقاش التشريعي لم يعد نقاشًا… بل أصبح مبارزة.

عند هذه النقطة، لم يعد الجدل قانونًا. أصبح صراعًا على الشرعية الخطابية:
– من يملك حق توصيف الآخر؟
– ومن يملك سلطة سحب أو فرض العبارات؟
– ومن يحدد سقف النقاش في البرلمان؟

اللحظة الأكثر توتّرًا: عندما فقدت الرئاسة صبرها

تدخّل رئيس الجلسة إدريس الشطيبي بدا محاولة للحدّ من تفاقم الموقف. لكنّ المشهد انزلق بسرعة. فالنائب عبد الصمد حيكر رفض الامتثال، وطالب بنقطة نظام رغم ثلاث تنبيهات. هنا فعل الشطيبي ما لم يجرؤ عليه رؤساء سابقون خلال هذه الولاية: تفعيل المساطر الانضباطية.

لكن اللحظة الفارقة لم تكن في الإجراء، بل في العبارة التي أطلقها وهو يواجه نواب العدالة والتنمية:
“أنتم ماركسيون على سنة الله ورسوله.”

جملة هجينة، تجمع بين المتناقضات، بين “الماركسية” و“الشرع”، وتنتمي إلى قاموس السجال الشعبي أكثر مما تنتمي إلى لغة البرلمان. جملة تكشف — بوضوح جارح — أن الحرائق اللفظية لم تعد استثناءً، بل تمهيدًا لموسم انتخابي بدأ قبل موعده.

ما وراء الجلسة: انتخابات تحرّك تحت السطح

التوتر داخل البرلمان لم يكن معزولًا. هو امتداد طبيعي لمشهد سياسي يتهيأ لامتحان 2026.
يساريون يخشون أن يُوتر عليهم تاريخهم الأيديولوجي، وإسلاميون يحاولون استعادة موقعهم في خطاب المعارضة، ووزير عدل يتقدم إلى المواجهة بجرأة فائضة، ورئاسة جلسة تحاول الحفاظ على التوازن فتسقط في الانفعال.

في الخلفية، تتصارع جبهتان:

  1. جبهة تريد تقديم نفسها كبديل عقلاني يمنع “الهيمنة الخطابية” للإسلاميين.

  2. وجبهة تعتبر أن الحكومة تجرّ البلاد إلى تضييق سياسي مقنّع تحت غطاء تقني وتشريعي.

التاريخ يطلّ برأسه

الأغرب — وربما الأعمق — أن كل ما قيل داخل الجلسة يعيد إلى الذاكرة نقاشات منتصف التسعينيات حين كان الإسلاميون يُتّهمون بـ“الثورية” و“التحريض”، بينما كان اليسار يحاول التخلص من إرث “الماركسية” الثقيلة على كتفيه.

اليوم يتكرر المشهد بأدوار مقلوبة.
التاريخ في المغرب لا يعود، لكنه يلتفّ ويبتكر صورًا جديدة من صراعات قديمة.

الختام: برلمان ينفجر قبل الموعد

تعليق البث المباشر، تدخّل وزير الداخلية لتهدئة وهبي، استمرار الجدل في الكواليس… كلها مؤشرات على أن ما حدث لم يكن مجرد “انزلاق لغوي”. لقد كان بروفة أولى لمرحلة سياسية ستزداد سخونة كلما اقتربنا من 2026.

إنه إعلان مبكر بأن البرلمان — المفترض أن يكون مساحة نقاش مؤسساتي — أصبح في لحظة معينة مرآة مفتوحة للصراع الانتخابي.

أو كما يمكن أن يوصف بلغة السياسة:
العيار خرج… وما عاد بالإمكان إعادته إلى فوهة الخطاب.