روتايو يعود إلى الواجهة… حين تتحوّل حرية الصحافة إلى مرآة لخللٍ أعمق في العلاقة بين باريس والجزائر

0
178

ليس ملف كريستوف غليز مجرّد قضية قضائية تطال صحافياً فرنسياً حُكم عليه بسبع سنوات سجناً في الجزائر. فالحكم الذي ثبّتته محكمة تيزي وزو لم يعُد يُقرأ اليوم كواقعة معزولة، بقدر ما تحوّل إلى مؤشّر كاشف لعمق الأزمة التي تعصف بالعلاقة الفرنسية-الجزائرية منذ سنوات، وإلى مناسبة يستثمرها جزء من الطبقة السياسية الفرنسية لمساءلة ما يعتبرونه “تراجعاً استراتيجياً” في حضور فرنسا ونفوذها في فضائها التاريخي.

برونو روتايو، وزير الداخلية الفرنسي السابق ورئيس حزب الجمهوريين، عاد ليتصدّر المشهد من بوابة هذه القضية، مُحمّلاً باريس جزءاً من المسؤولية عمّا يصفه بـ“التساهل المزمن” تجاه الجزائر. تصريحات روتايو لا تأتي من فراغ؛ إنها تعبّر عن خطاب آخذ في التمدد داخل اليمين الفرنسي يعتبر أنّ فرنسا خسرت كثيراً من أوراقها في الجزائر نتيجة سلسلة تنازلات سياسية، وأن الوقت قد حان لإعادة ضبط العلاقة وفق مبدأ “الندية” لا “الاسترضاء”.

غليز كرمز… والاختلال كهيكل

توقيف الصحافي الفرنسي، أثناء تغطيته لأنشطة رياضية في منطقة القبائل، لم يمرّ مرور الكرام في باريس. لكن روتايو يرى أن ردّ الفعل الرسمي الفرنسي كان متواضعاً، بل “باهتاً”، مقارنة بحجم تأثير القضية. قطاعات واسعة من الإعلام الفرنسي تطرح السؤال ذاته: هل بذلت باريس فعلاً ما يكفي للضغط من أجل إطلاق سراحه؟

يروي شقيق غليز، كما استحضر روتايو، أن العائلة التزمت الصمت ولم تلجأ إلى أي خطوات احتجاجية، أملاً في حل دبلوماسي هادئ. لكن ذلك “لم يثمر شيئاً”، ما دفع روتايو إلى اعتبار القضية دليلاً على أن الجزائر “لا تُصغي إلّا حين تمارس فرنسا حقها في الضغط السياسي.”

من يُهان؟ الرئيس… أم الدولة؟

في خضمّ هذه السجالات، عاد النقاش القديم الجديد: هل تمثل القضية إهانة للرئيس ماكرون؟ روتايو يرفض هذا الطرح، ويرى أن الإهانة لا تطال الأشخاص بل الدولة الفرنسية بكاملها. من وجهة نظره، تراكمت ملفات كان فيها الموقف الفرنسي مرتبكاً، متردداً، حريصاً على عدم التصعيد مع الجزائر، حتى حين كانت الإشارات القادمة من الجزائر تُقرأ في باريس على أنها “تعامل فظّ مع الشريك التاريخي”.

هنا يتقاطع السياسي مع الرمزي: فحرية الصحافة ليست مجرد قيمة قانونية في فرنسا، بل ركيزة من ركائز “الذات الجمهورية”. لذلك، يكتسب ملف غليز طابعاً يتجاوز الفرد ليصل إلى صورة فرنسا نفسها ووزنها في جوارها المتوسطي.

صنصال والحسابات المُربكة

ولعلّ ما زاد من حدة التفاعلات هو اقتران تثبيت الحكم على غليز بإفراج الجزائر عن الكاتب بوعلام صنصال بقرار رئاسي. كان يُنتظر أن تكون تلك الخطوة مؤشراً على انفراج سياسي، لكنّ سرعان ما اتضح أن المسار هشّ، وأنّ التقارب بين باريس والجزائر يشبه “مياهاً ضحلة تتكسّر عند أول موجة”.

تصريحات صنصال، التي قال فيها إن تشدده ربما عرقل الإفراج عنه سابقاً، لم تمرّ دون تعليق. روتايو اختار أن يقرأها من زاوية “الميزان المختلّ” للعلاقة الثنائية، مؤكداً أنه التقى الكاتب مطولاً ولم يوجه إليه أيّ ملاحظة، لكنه يرى في القضية برمّتها دليلاً إضافياً على ضرورة أن تكون باريس أكثر حزماً.

حرية الصحافة في المنطقة الرمادية

منظمات حقوقية دولية، وعلى رأسها مراسلون بلا حدود، لم تتردد في وصف متابعة غليز بأنها “حلقة جديدة في سلسلة التضييقات على الصحافة في الجزائر”، مشيرة إلى أن العمل الصحافي في منطقة القبائل يتطلب بالضرورة التعامل مع مصادر متعددة، بعضها قد يكون “غير مريح” للسلطات. محاميه قال بوضوح إن موكله “لم يكن يحمل سوى قلم وكرة”، في إشارة إلى كونه صحافياً رياضياً استقصائياً لا علاقة له بالاتهامات الثقيلة التي وُجهت إليه.

لكن القضية نفسها تُسلّط الضوء على سؤال أكبر: كيف تتحوّل مناطق حساسة سياسياً إلى فضاءات رمادية يختلط فيها الصحافي بالمشتبه به، والمعلومة بالاتهام، والهوية المهنية بالقراءة الأمنية؟

في الخلفية… صحراء، ونفوذ، وتشنّج متبادل

لا يمكن فصل التوتر الأخير عن السياق العام الذي يطبع العلاقات بين البلدين منذ الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء. تلك الخطوة أعادت رسم موازين القوى في المنطقة، وأربكت الحسابات الجزائرية، وأطلق بعدها مسلسل من التشنجات شمل التأشيرات، والدبلوماسيين، والزيارات الرسمية، وصولاً إلى هذا الملف الذي فجّر مرة أخرى هشاشة القنوات الدبلوماسية.

خلاصة: هل نعيش “أزمة قيمة”… أم “أزمة نفوذ”؟

ملف كريستوف غليز ليس نهاية القصة، بل هو بداية فصل جديد في علاقة لم تنجح بعد في تطبيع نفسها رغم كل محاولات التهدئة. تعود فرنسا لطرح سؤالها الوجودي: ما الذي تبقى لها من نفوذ في الجزائر؟ وفي المقابل، تعود الجزائر لخطابها التقليدي: حتى متى ستظل باريس تقرأ المشهد الجزائري بعين الامتياز التاريخي؟

بين سؤال القيمة (حرية الصحافة، حقوق الإنسان، صورة الدولة) وسؤال النفوذ (الوزن الجيوسياسي، الملفات الإقليمية، التوازن المتوسطي) تتحرك هذه الأزمة ببطء، لكنها تكشف أن الطريق نحو علاقة “متوازنة” ما زال طويلاً.

وربما هذا ما أراد روتايو قوله، لكن بصيغة سياسية: إنّ ما يحدث اليوم ليس مجرد خلاف ظرفي، بل هو اختبار حقيقي لقدرة البلدين على بناء علاقة تحترم نفسها قبل أن تحترم الآخر.