عبدالباري المالكي
مازلتُ أتذكر أني اتصلتُ بليلى عدة مرات بالهاتف ، لكنها لم تجب ، ولم أكن أعلم السبب الحقيقي ، أو … فلنقل أني لم أكن أدري بما يدور بداخلها من أفكار وهواجس بعد أربع سنوات تقريباً من علاقة وطيدة كنت أراها حباً ، ولكن تصرفاتها بعد خطبتها — التي لم أكن أعلم بها للآن — كانت توهمني خلاف ذلك لما رأيتُ منها من إعراض لي وجفوة …وذات ليلة من الليالي الحالكة ، وفي وقت متأخر رنّ جرس هاتفي ، لم أستوعب ذلك فقد رأيتُ اسمها بالهاتف وصرخت .. :- ياالله .. إنها هي من تتصل بي …فرحتُ فرحاً شديداً ولم أصدق أنها تتصل بي ، فهي قد أصبحت في الآونة الأخيرة كالعملة النادرة .
رفعتُ السماعة وكان هذا الحوار البارد ، والذي هو أشد برودة من شتاء بغدادي …:- ألو … مساء الخير يايوسف .
:- ألو … مساء النور يا ليلى ، كنت انتظركِ أياماً ولياليَ ، لمَ هذا الغياب ؟ :- أريد أن أراكَ غداً يايوسف .
:- حاضر ياليلى … سنلتقي في نفس المقهى المعتاد الساعة العاشرة صباحاً .
وبقيتُ تلك الليلة أفكر وأفكر ، كيف سألتقيها ؟ بأية شفتين سأحدثها ؟ بأية عينين سأراها ؟ بأية أذنين سأسمعها ؟ بل بأي أنف سأشم عبيرها الفواح ؟ .
رحت أصوغ التعابير مع نفسي جملة جملة ، وكلمة كلمة ، بل حرفاً حرفاً .
جلستُ على أريكتي المتواضعة ورحت أحاور ليلى وأنا أتخيلها جالسةً قبالتي في المقهى … :- (أتعلمين يا ليلى أن لديّ قاموساً أدّخرهُ لكِ أنتِ فقط ؟ أنتقي منه مايناسب مقامكِ ، و يضاهئ نبلكِ ، و يوازي مشاعري نحوكِ ، حتى إذا لم أجد ما يليق بجلالكِ ، وما يرتفع الى سموّكِ ، أرجعتُ تلك الكلمات ، ورحتُ أفتش عن بدائلَ لها في قاموس غيرِه ، فإذا عجزتُ عن إيجاد ما يساويكِ شأناً ، ويلائمكِ قدراً ، رحتُ أبحث في عالم الملكوت ، وشأن الناسوت ، عساني أفلح في تسطير جملة أو جملتين أفضي بهما إليكِ .
فالعاشق يا ليلى لايكلّ من البحث ، ولايملّ من الانتظار .
ولعَمري يا حبيبتي … إني لأنتقي كلماتي تلك بعد بحث يطول ، وانتظار مَهُول ، خشية أن لا يوافق مزاجكِ ذات مرة ، فآخذها بعناية الطبيب ، وأتناولها برعاية الرقيب ، كلمة كلمة ، أطليها بماء الذهب ، وأُنقِعها بماء الورد ، ثم بعطر البنفسج ، ثم بزهر الآس، ثم بالنرجس والياسمين ، ثم بألف نبتة من حدائق الروح ، وعذوبة البوح ، مرة بعد مرة ، فإن فاحت ، و شمّها المارّون عن بُعدِ أذرعٍ كثيرة ، صرت ُ أعاود الكرّة تلو الأخرى ، عسى أن يروق لك عطرها ، ويعجبكِ شكلها ، فإذا لقيتُكِ ، نثثتُها على رأسكِ كما تُنثّ الحلوى على رأس العروس ، فيختلط عبق الورد بعطر جسمكِ الذي هو أشدّ عندي من رائحة المسك والعنبر .
فإذا فعلتُ بكِ ذلك ، انسابت كلماتي حرفاً حرفاً ، على شعركِ الذهبي ، فأمسحه خصلة خصلة ، من جذره الى أطرافه ، يصطبغ بها كأن ْ لا فرقَ بين جدائلكِ ولون أشعة الشمس ،فيحتار الرائي بكِ وهو يشاهدها تنسكب على عينيكِ وقد غطت حاجبيكِ الهلاليينِ ، ورمشيكِ الطويلين ، فينصبغ جفناكِ بزهر الآس ، ووجنتاكِ بلون الورد ، وشفتاكِ بذات البنفسج ، حتى إذا سالت على أخمص قدميكِ ، صرتِ أشبه بملاكٍ لم يخلق الله لكِ نظيراً ، أو حوريةً لم يكن لكِ أيّ شبَه ) .
كانت هذه رسالة رتبتها لها لأقرأها على مسامعها عند لقاء الغد …لقد كانت ساعات الليل ثقيلة عليّ ، كنتُ أعدها بأصابعي لألقى عينيها العسليتين … وآهٍ من عينيها .
كم تمنيتُ في تلك الساعة أن يحيل الله الليل نهاراً ، فأسرع الى محالّ العطارين ، ومقرّ العرافين ، أتزوّد منهم تعويذة أستعيذ بالله بها لعينيها الجميلتين ، ولأسرعت ُ إليها ببخور أمي أبخرهما به طوال نهاري …لم أنم تلك الليلة … ولم أعرف الهدوء ، كان القلق يساورني ، والأرق كاد ان يقتلني ، فوالله .. لن أنسى تلك الليلة ما حييتُ .
صاح الديك ، وطلع الصباح ، فقفزتُ من سريري وأنا متعب للغاية من السهر والتفكير ، ورحت أدقق النظر في ساعتي كل دقيقة ، وأتعجل عقاربها لألتقي حبيبتي ليلى بأرقّ عبارات اللقاء .
عجلتُ بنفسي الى ذلك المقهى الذي لم يّفتح بعد لأنني ذهبتُ إليه بشكل مبكر جداً ، إنتظرت ساعة حتى فتحه صاحبه ، فدخلته وكنتُ أول الوافدين إليه ..كنت أراقب ساعة المقهى دقيقة دقيقة حين دخلت ليلى فيه بعد أن تأخرت عن موعدها عمداً .
جلست ليلى مقطبة الحاجبين ، عابسة الوجه ، وكأنها تجلس مع رجل لاتعرفه ، سلّمتْ عليّ ، ورددتُ لها السلام بسلام العاشق ، وتحية الملهوف ، وأنا انتظر الفرصة لأقول لها ماحفظتُه بالأمس من كلمات .
قالت ببساطة لم أعهدها فيها من قبل …: – يوسف … آنَ لك أن تعرف أني لست من العاشقين ، فافهم أرجوك .
قلت : – ماذا تقصدين ياليلى ؟ قالت : – أقصد أنكَ تمضي وقتك معي في سراب .
قلت :- ومادار بيننا من قبل ياليلى ؟ كيف لكِ أن تفسريه ؟
وتلك النظرات التي طالت بيننا حتى تقرّحت أعيننا منها ، وذلك الكلام الشبه عسل والذي صاغته ألسنتنا ، ولاكته افواهنا وهثمته أضراسنا ، كيف لك ولي ان نفسره ؟ .
أما كان ذلك حباً ؟ أ كان كل ذلك مجرد جلسات لاتعني شيئاً لكِ ياليلى ؟ ألم يكن عشقاً ؟
إذن اخبريني كيف أوحيتِ إليّ بذلك ؟ أم أني حلمتُ حلماً فكان اضغاثاً لا غير ؟
وتلك الخواطر التي كنا نتواردها سوياً في وقت فراغنا من الليل ؟ ماذا كانت تعني برأيكِ ؟ أ تظنين ان هناك من أوحى لي بعشقكِ لي سواكِ ؟
أبهذه البساطة ياابنة الأطايب تخبرينني ان لا قلب تملكينه ؟
وأن لا مشاعر تركبكِ ؟
أي جرمٍ هذا الذي ترتكبينه بحقي ؟ ثم تأتين وأنت تميسين ميس الظباء لتخبريني انكِ لستِ من العاشقين ؟
أيّ كبدٍ ياليلى فريتِه ؟
وأي فؤادٍ ذبحتِه بغير سكين ؟
محال ان تكوني أنت ليلى …
محال أن تكون هذه اليد التي تمدّينها إليّ الآن هي نفس اليدِ التي مددتِها لي أول مرة …محال ان تكون عيناك هما نفس العينين …محال ان تكون شفتاك هاتان هما ذات الشفتين …محال ان اكذّب نفسي في ما كنتُ قد سمعتُه منكِ من قبل …محال ان أكذّب ما ورد في خاطري ، وما جال في خيالاتي ..محال ان اكون مخطئاً أيتها الراهبة فأوحيتُ الى فؤادي خطأً أنكِ تعشقينني …
ثم علا صوتي قليلاً بسبب انفعالي وانا اكلّمها …: – أخبريني ياسيدتي …هل كنتِ تكذبين عليّ … وحاشاكِ ان تكذبي …؟أم كنتِ تشفقين عليّ من حيث لا ادري … ؟ وحاشاي ان يشفق عليّ أحد …أأخبرتُكِ ياراهبتي أني كنتُ ميتاً من قبل فرأيتِ أن تحييني على يديكِ بالوهم …؟
أم سألتكِ إحساناً فتفضّلتِ به عليّ من رضابكِ ؟
أم كنتُ ضالاّ فآويتِني الى قلبكِ ؟
أم رأيتِني آثماً فعمّدتِني بنداكِ ؟
أم كنتُ مستجدياً عطف أحدٍ فوهبتِني ما أستجديتُه من عطفكِ …؟
أم كنتُ أدور بين الأزقة والحارات بغير رشدٍ فوجدتِ أنّ من واجبكِ أن تهدي مشرداً مثلي فهديتِني ؟
ام رأيتِني جوّالاً فحزمتِ أمركِ لتسيري معي في تجوالي ساعة من الزمن ؟
أم وجدتِني فقيراً للعشقِ فرأيتِ أن تغنيني بالإيحاء ؟
أم رأيتِني محتاجاً فتكفّلتِ بحاجتي …؟
قالت : – يوسف … أرجوك لم يكن هذا ولا ذاك ..قلت : – وماذا كان ياليلى ؟ هيّا خبّريني ؟ أتراه كان مجرد مداراةٍ منكِ لي ياليلى ؟ … كمن يداري أحداً في عمله ليتجنب خلافاً معه ، خبريني ياابنة عمران ، أكان كل ذلك مداراة !! واذا كان مداراة … فلأي شيء؟ مداراة لمشاعري التي أسقطتِها على الأرض بين قدميكِ ؟ مداراة لقلبي المسكين الذي قوّضتِهِ حتى صار مدمى .
ثم أكملتُ عتابي لها ولومي وهي ساكتة تذرف الدمع على وجنتيها الورديتين :-خبّريني ياليلى متى قسوتُ عليكِ لتداريني ؟ ومتى أسأتُ لكِ لتصانعيني ؟ ومتى أحرجتُكِ في شيء لتجامليني ؟ ومتى اوقفتكِ موقف الضعف لتداهنيني ؟ ومتى أبلغتكِ مبلغ الرهَقِ فعزمتِ على أن تلاينيني …؟ ومتى أكرهتكِ على أمرٍ لتلاطفيني …؟ أي حديثٍ لكِ بعد هذا ياليلى معي ؟ فوالله … لو كنتُ قد شككتُ في كل نساء الأرض من قبلُ ، ما شككتُ فيكِ .
ولو كنتُ في ما مضى قد ارتبتُ في أفعالهنّ ، ماارتبتُ في فعلٍ منكِ قد صدر ..ولو ساء ظني بأجمعهنّ آنذاكَ لحسنَ ظني بكِ ياابنة الحواريين … ولو كان قد أخبرني العذّال أنكِ مخادعتي لما أقررتُ لهم بخديعتكِ لي …ولو أرغموني يومها على التخلي عنكِ ماكنتُ لأتخلى عن ظفرٍ فيكِ . ولو صلّبوني على جذوع النخل ما كنتُ لأداهنهم فيكِ ولو قطّعوا يديَّ وأرجلي من خلاف .
لكن … هيهات …هيهات … فوالله ِ … لقد فريتِ كبدي …ووالله … لقد ذبحتِني بغير سكين .فقد مات فؤادي … رحمة الله عليه .تأوّهت ليلى كثيراً وكأنها زفرات موتها ، أو كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي تنظر إليّ نظرة حبّ أصبح دون جدوى .
ثم أخذتُ ورقة وقلماً و رحتُ أكتب لها بعض ما يجول في خاطري ، ووضعته على الطاولة بين يديها لتقرأه على مهَلٍ وأنا أغادرها ، دون ان تنبس ببنت شفة ، والدموع تتدفق على خديها .
فكان هذا ماكتبته لها …(أميرتي النبيلة …ولقد دعَت ْ عرّافتي بَنات ِ الجنّ يَندبْنَني فيك ِ …إذ ْ كنت ِ ضالتي َ الوحيدة َ التي أنشدَها قلبي …فقد كنت ُ أكلّمك ِ كما تكلّم ُ الأنهار ُ شطآنَها ، والعيون ُ أجفانَها … وكنّا – أنا وأنت ِ – كالحنجرة ِ ومزمارِها توأمين ِ ، حين تنحدر ُ الدموع ُ من الخدين ِ …وكنت ُ أحرَص َ عليك ِ من الصيارفة ِ على دينارهم ، حتى أجلستكِ بين يديّ في حلمي ، فأفلتّ ِ مني في يقظتي .
ولقد استحلفت ْ عرّافتي بنات ِ الجن ّ كي يَبكينَني ويعزّينَها فيَّ …فقد مات فؤادي … رحمة ُ الله ِ عليه ….