في مقالته الصادمة والمعبّرة، يسلط الحسين اليماني، عضو المجلس الوطني للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، الضوء على أزمة ثقة عميقة بين الشعب المغربي ومؤسسات الحكم، ممثلة في الحكومة والبرلمان. هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات من الإخفاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي تجلت بشكل واضح في قضية قانون الإضراب الجديد. من خلال تحليل مقال اليماني، سنتعمق في أبعاد هذه الأزمة ونحاول فهم أسبابها وتداعياتها على المستقبل السياسي والاجتماعي للمغرب.
أزمة الثقة في الحكومة: بين الالتزامات المكسورة والتفاوض الفاشل
يبدأ اليماني مقاله بالتركيز على أزمة الثقة في الحكومة، مشيرًا إلى أن هذه الأزمة لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج لسلسلة من الإخفاقات والانقلابات على الالتزامات. ففي أبريل 2024، وقعت الحكومة مع النقابات على محضر حوار اجتماعي يتعهد بضرورة التفاوض والتوافق حول القوانين الاجتماعية، بما فيها القانون التنظيمي للإضراب، قبل طرحها على المسطرة التشريعية. ومع ذلك، سرعان ما انقلبت الحكومة على هذا الالتزام، حيث سارعت إلى طرح مشروع قانون الإضراب على مجلس النواب دون إشراك حقيقي للنقابات، مما أدى إلى مصادقة البرلمان على القانون بأقلية مفضوحة.
“قانون الإضراب في المغرب: تنظيم أم تقييد؟ تصريحات وزير التشغيل يونس السكوري تحت المجهر”
هذا الانقلاب على الالتزامات يطرح تساؤلات جوهرية حول مصداقية الحكومة في التعامل مع الشركاء الاجتماعيين. هل يمكن الوثوق بحكومة تتنصل من تعهداتها؟ وما هي الرسالة التي ترسلها الحكومة للمجتمع عندما تتعامل مع الحوار الاجتماعي كمجرد إجراء شكلي؟ هذه الأسئلة تكشف عن أزمة أعمق تتعلق بفقدان الثقة في المؤسسات التنفيذية، والتي تبدو وكأنها تعمل لصالح أجندات سياسية ضيقة على حساب المصلحة العامة.
البرلمان: أداة للتصويت أم سلطة تشريعية مستقلة؟
إذا كانت الحكومة قد فقدت ثقة الشارع، فإن البرلمان لم يسلم بدوره من هذه الأزمة. يشير اليماني إلى أن مصادقة البرلمان على قانون الإضراب كانت بمثابة “رفع يد” من قبل نواب الأغلبية، دون نقاش جدي أو مراعاة لمطالب المعارضة والنقابات. بل إن التعديلات التي قدمتها المعارضة تم تجاهلها بشكل واضح، مما يعكس هيمنة السلطة التنفيذية على التشريعية.
هنا يبرز سؤال محوري: هل البرلمان يمثل الشعب فعلاً، أم أنه مجرد أداة لتمرير قرارات الحكومة؟ الواقع يشير إلى أن الفصل بين السلطات، الذي يُفترض أن يكون ركيزة أساسية في أي نظام ديمقراطي، أصبح غائبًا في المشهد السياسي المغربي. هذا الغياب لا يضعف فقط من شرعية البرلمان، بل يزيد من شعور المواطنين بالاغتراب عن العملية السياسية برمتها.
القانون المشؤوم للإضراب: محاولة لكبح جماح الحراك الاجتماعي
يرى اليماني أن قانون الإضراب الجديد ليس سوى محاولة من الحكومة للحد من الممانعة الاجتماعية في ظل تنامي السخط الشعبي. فمع ارتفاع معدلات البطالة وإغلاق العديد من المقاولات وارتفاع الأسعار، أصبحت الحكومة تشعر بتهديد حقيقي لاستقرارها. ومن هنا جاءت فكرة تمرير قانون يحد من الحق في الإضراب، كجزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تسهيل تمرير إصلاحات أخرى قد تكون أكثر إثارة للجدل، مثل إصلاح نظام التقاعد ومراجعة مدونة الشغل.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن للحكومة أن تبني استقرارًا حقيقيًا من خلال كبح الحريات وتقييد الحقوق؟ التاريخ يعلمنا أن القمع والضغط لا يؤديان إلا إلى مزيد من الاحتقان والغضب. فبدلاً من أن تكون الإصلاحات أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية، تصبح وسيلة لتعميق الفجوة بين الحكام والمحكومين.
الجبهة النقابية: مقاومة في مواجهة التهميش
في مواجهة هذه السياسات، انخرطت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في تأسيس جبهة للدفاع عن الحق في الإضراب، وقامت بتنظيم سلسلة من الوقفات الاحتجاجية والمسيرات، بل والإضراب العام الوطني. هذه الخطوات تعكس إصرار النقابات على مواجهة السياسات التي تراها معادية لحقوق العمال، ولكنها أيضًا تطرح تساؤلات حول مستقبل الحوار الاجتماعي في المغرب. هل يمكن استعادة الثقة بين النقابات والحكومة؟ وما هي الشروط اللازمة لإعادة بناء جسور التواصل بين الطرفين؟
الخاتمة: نحو وطن يتسع للجميع
في النهاية، يؤكد اليماني على أن بناء وطن يتسع للجميع يتطلب إشاعة الحريات وحماية حقوق العمال، بدلاً من تقييدها. فالمزيد من الضغط والتكبيل لن يؤدي إلا إلى زعزعة السلم الاجتماعي، وهو ما يهدد الاستقرار الذي تسعى الحكومة إلى تحقيقه. إن أزمة الثقة في الحكومة والبرلمان ليست مجرد أزمة سياسية عابرة، بل هي انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بغياب العدالة الاجتماعية وتراجع الديمقراطية التشاركية.
لذا، فإن الخروج من هذه الأزمة يتطلب إعادة النظر في السياسات العمومية، وفتح حوار جدي مع كل الفاعلين الاجتماعيين، واحترام الحقوق الأساسية للمواطنين. فبدون ذلك، سيظل شعار “لا ثقة في الحكومة ولا ثقة في البرلمان” يتردد في الشوارع، كتذكير دائم بفشل النخب الحاكمة في تحقيق تطلعات الشعب.