في زقاق ضيق تفوح منه رائحة الخبز المخبوز على نار الفحم، وبين جدران تحمل ذكريات أجيال متعاقبة، تنقلب حياة الآلاف رأسًا على عقب. حي المحيط بالرباط، المعروف بـ”بوسيو لوسيو”، بات اليوم ساحة لمعركة غير متكافئة، حيث يجد سكانه أنفسهم في مواجهة مباشرة مع قرارات الهدم القسري، التي تُنفذ بضغط من جهات نافذة، دون رحمة أو اعتبار لمصير الأسر المهددة بالتشريد.
إخلاء قسري.. صدمة وألم
منذ أشهر، يتعرض سكان حي المحيط لضغوط متزايدة من السلطات المحلية لإخلاء منازلهم، وسط صمت رسمي مطبق. فجأة، يجد هؤلاء المواطنون أنفسهم في موقف أشبه بزلزال يهدم كل ما بنوه على مدار عقود، حيث يتم إجبارهم على بيع ممتلكاتهم بأثمان بخسة (13,000 درهم للمتر المربع للملكيات المحفظة و10,000 درهم لغير المحفظة).
ولكن، لمن يبيعون؟ الإجابة تظل غامضة، إذ تتحدث الأوساط عن جهات خليجية تستحوذ على العقارات في صفقات تحوم حولها الشبهات.
فاطمة التامني تسائل وزير الداخلية: هل هدم منازل حي المحيط قانوني أم تشريد ممنهج؟”
خرق القانون.. وتجاوز الدستور
القانون المغربي واضح بشأن نزع الملكية، إذ ينص على ضرورة صدور مرسوم رسمي في الجريدة الرسمية، يحدد المنفعة العامة للمشروع، وهو ما لم يحدث في هذه القضية. ومع ذلك، تتجاهل السلطات هذا الإجراء، بل وتضغط على السكان بطرق غير قانونية، من بينها التهديد بقطع الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء، لإجبارهم على الرضوخ للأمر الواقع.
دموع النساء ومآسي الأسر.. ثمن “التنمية المشبوهة”
“أمينة”، سبعينية تعيش في هذا الحي منذ طفولتها، لم تستطع تحمل الصدمة، فسقطت جثة هامدة فور تلقيها إشعار الإخلاء. لم تكن أمينة الوحيدة، فقد سجلت حالات وفاة أخرى نتيجة التوتر النفسي والقلق الذي يعيشه السكان، خاصة كبار السن. أما الأطفال، فقد تحولت حياتهم إلى كابوس، وسط خوف من الضياع والتشرد.
أين السياسيون؟ غياب مريب وصمت مخيف
لم يظهر أي موقف واضح من الأحزاب السياسية تجاه هذه المأساة، باستثناء فيدرالية اليسار الديمقراطي، التي دقت ناقوس الخطر. أما باقي الأحزاب، فقد فضلت الصمت أو التملص من المسؤولية، وكأن هذه الأزمة تحدث في كوكب آخر.
الاستثمار الخليجي.. فرصة أم استعمار اقتصادي؟
ما يحدث في حي المحيط يطرح تساؤلات كبرى حول الدور الحقيقي للاستثمارات الخليجية في المغرب. هل هي أداة لتنمية الاقتصاد، أم وسيلة لشراء الذمم ونهب الأراضي بأسعار بخسة؟ في ظل غياب الشفافية، يبدو أن هذه الاستثمارات تتحول إلى نوع جديد من “الاستعمار المالي”، حيث يتم تفريغ المدن من سكانها الأصليين لصالح مشاريع لا تخدم سوى النخبة.
حي المحيط اليوم.. مدينة الأشباح غدًا؟
إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن حي المحيط، الذي كان يومًا ما حيًّا نابضًا بالحياة، سيصبح مجرد ذكرى في كتب التاريخ. آلاف الأسر ستجد نفسها بلا مأوى، فيما سيحل مكانها مشاريع استثمارية فاخرة لا يستطيع المواطن العادي الاستفادة منها.
ويبقى السؤال: متى سيتحرك الضمير الوطني لإنقاذ ما تبقى من كرامة المواطن المغربي؟