العقار تحت المجهر: هل يتحوّل ضواحي الدار البيضاء إلى “مغسلة أموال” جديدة؟

0
154

شبكات تبييض، تورط منتخبين، ومضاربات صامتة تطرح أسئلة عن مستقبل النزاهة الترابية والمالية في المغرب

في خضم التحولات الاقتصادية التي يشهدها المغرب، يعود العقار إلى واجهة الجدل، ليس كرافعة للاستثمار أو أداة للعدالة المجالية، بل كأداة محتملة لغسل الأموال وإعادة توزيع النفوذ في الهوامش المتحضّرة. ما كشفته مصادر مطلعة لـ المغرب الآن بشأن موجة الشراء النقدي المكثف لبقع أرضية في تجزئات عقارية جديدة بضواحي الدار البيضاء، خصوصًا في إقليمي برشيد والنواصر، يطرح أسئلة حرجة تتجاوز المعطى المالي إلى الأبعاد السياسية والاجتماعية والدبلوماسية في زمن “الحوكمة والمحاسبة”.

من يشتري؟ ولماذا الآن؟

الظاهرة المسجلة – وفق مصادر وثيقة الاطلاع – تتعلّق بأفراد، بينهم مغاربة مقيمون في الخارج، ومنتخبون حاليون وسابقون، ومنعشون عقاريون، أقدموا على شراء عشرات البقع الأرضية بمبالغ نقدية تتجاوز في بعض الحالات مليون درهم للبقعة الواحدة، دون أي تمويل بنكي. السؤال البديهي هنا: من يملك كل هذا “الكاش”؟ ولماذا يُفضّل البعض اللجوء إلى الدفع النقدي رغم توفر البنوك وآليات التمويل العقاري؟

المعطى الأشد خطورة أن هؤلاء المشترين لا تربطهم بالمنطقة علاقة سكن أو نشاط اقتصادي، وغالبًا ما يُمثلون مدنًا أخرى، خصوصًا من شمال المملكة. فهل نحن أمام استثمار شرعي؟ أم أمام محاولة للتمويه والتموقع العقاري استعدادًا لتحولات قادمة؟ أم أن الأمر يُخفي ديناميكيات جديدة لتهريب الأموال في الاتجاه المعاكس: من الخارج إلى الداخل؟

هل تحوّلت “التسوية الجبائية” إلى مظلة لتبييض الأموال؟

تتقاطع هذه المعطيات مع سياق حساس: إطلاق الدولة المغربية، مؤخرًا، عملية تسوية طوعية للجبايات لفائدة الأشخاص الذاتيين. وهي خطوة محمودة في إطار تشجيع الامتثال الضريبي، لكنها تطرح مخاطر الاستغلال غير المشروع.

هل استغلّت بعض الشبكات هذه الفرصة لتمرير مبالغ ضخمة تحت غطاء التسوية؟

تقارير دولية، منها تقارير البنك الدولي ومراكز أبحاث اقتصادية، تشير إلى أن المغرب يفقد سنويًا مليارات الدراهم بسبب تهريب الأموال وعدم الامتثال الضريبي. فهل يُعيد العقار تدوير هذه الأموال؟ وهل تكفي أجهزة الدولة المالية، مثل الهيئة الوطنية للمعلومات المالية والمديرية العامة للضرائب، لمواجهة هذا التحدي البنيوي؟

منتخبون وموثقون ومنعشون في قفص الشبهة

التحقيقات الجارية – بحسب ذات المصادر – لا تستثني موثقين ولا مجزئين عقاريين، بل تشمل حتى منتخبين حاليين وسابقين، و”شركات عائلية” تستفيد من عقود بناء وتسويق، بعد حصولها على بقع استراتيجية في ظروف غامضة.

هنا يُطرح سؤال أكثر عمقًا: ألم يحن الوقت لمساءلة العلاقة المشبوهة بين السياسة والعقار في المغرب؟ ولماذا لا يتم إخضاع كبار المنتخبين لفحص الإثراء غير المشروع ومراقبة الذمة العقارية كما يحدث في الدول الديمقراطية الصاعدة؟

تقارير أقسام “الشؤون العامة” بالعمالات كانت صريحة في الإشارة إلى أن بعض رؤساء الجماعات يتصرفون في المجال العقاري وكأنه ملكية خاصة، مما يؤدي إلى احتكار أراضٍ وإعادة بيعها عبر شبكات الوساطة العائلية والسياسية.

البعد الإقليمي والدولي: استثمار مغاربة العالم… أم اختراق مالي؟

من اللافت في هذه العمليات حضور مكثف لـ مغاربة مقيمين بالخارج. وهو ما يفتح نقاشًا مزدوجًا:
هل نحن بصدد استثمار وطني مشروع يجب تشجيعه وتحصينه؟ أم أن هناك أطرافًا دولية – حتى وإن كانت عبر مواطنين مزدوجي الجنسية – تسعى إلى إعادة تدوير أموال مشبوهة في السوق المغربية، مستغلة ضعف المراقبة أو ليونة الإطار التشريعي؟

الأمر لا يخلو من بُعد دبلوماسي أيضًا: فالمغرب، وهو يفاوض على تعزيز شراكاته مع أوروبا والخليج وأفريقيا، مطالب بضمان شفافية نظامه المالي والعقاري. وأيّ تهاون في ملف حساس كهذا قد يعصف بثقة الشركاء الدوليين والمؤسسات المالية الكبرى.

بين الحوكمة والمحاسبة: هل تكفي الإجراءات الحالية؟

مما لا شك فيه أن رصد الظاهرة هو خطوة أولى مهمة، لكن الأهم هو المضي في المساءلة وربط المسؤولية بالمحاسبة.

هل ننتظر حتى تترسخ شبكات تبييض الأموال كواقع جديد؟ أم نبادر بمنظور استباقي لردع المتورطين؟
وماذا عن دور القضاء؟ وهل يملك صلاحيات حقيقية لتفكيك هذه البنيات المتشابكة؟ أم أن “جدار الحصانة الانتخابية والمالية” سيظل عائقًا أمام أي تغيير حقيقي؟

نحو استراتيجية وطنية لمحاربة تبييض الأموال في العقار؟

قد يكون الوقت مناسبًا لإطلاق إستراتيجية وطنية مندمجة لمحاربة تبييض الأموال في القطاع العقاري، بتعاون بين وزارة الداخلية، وزارة العدل، بنك المغرب، الهيئة الوطنية للمعلومات المالية، والمجتمع المدني.

ويمكن دعم هذه المبادرة بإطار قانوني أكثر صرامة، مستوحى من توصيات مجموعة العمل المالي (GAFI)، خصوصًا أن المغرب يخوض معركة حساسة للخروج من “المنطقة الرمادية” للتصنيفات المالية الدولية.

“تجدر الإشارة إلى أن الهيئة الوطنية للمعلومات المالية والمديرية العامة للضرائب قد باشرتا تحقيقات معمقة في هذه العمليات، وذلك في إطار صلاحياتهما القانونية. وفي انتظار نتائج هذه التحقيقات، تبقى المعلومات المتاحة أولية وقيد التحقق، ولا يمكن اعتبارها دليلاً قاطعًا على وجود مخالفات قانونية أو مالية.”

خلاصة واستشراف: ما العمل؟

ما يحدث في ضواحي الدار البيضاء ليس مجرد معاملات عقارية، بل مؤشر على تحولات في عمق بنية السلطة الاقتصادية والاجتماعية. والمطلوب ليس فقط تتبع الصفقات، بل تفكيك البنيات التي تُنتج الريع، وربط ذلك بإصلاحات كبرى تمس النموذج التنموي الجديد، والحكامة الترابية، والعدالة الجبائية.

إن هذه القضية، بما تنطوي عليه من مخاطر وفرص، تشكّل جرس إنذار. فهل يستمع إليه صناع القرار قبل أن تتحوّل بعض المناطق إلى “جزر مالية معزولة” داخل التراب الوطني؟ وهل يتحقق التوازن بين تشجيع الاستثمار، ومكافحة التلاعب والفساد، وإرساء الثقة في الدولة والمؤسسات؟

الأسئلة مفتوحة… والإجابات مرهونة بإرادة سياسية جريئة، ومجتمع مدني يقظ، وصحافة تحليلية مسؤولة.