في سياق ما بات يوصف بـ”الزلزال الهادئ” الذي تضرب ارتداداته أعماق الإدارة الترابية بالمغرب، تكشف تقارير أولية للمفتشية العامة للإدارة الترابية عن صورة مقلقة لمسارات تدبير العمال العرضيين داخل عدد من الجماعات المحلية، خاصة بجهتي الدار البيضاء-سطات ومراكش-آسفي. الأرقام صادمة، والممارسات المتكررة تكشف عن اختلالات بنيوية تمتد جذورها إلى التقاء المصلحة السياسية بالحاجة الاجتماعية، ضمن مشهد يفرض التساؤل العميق: هل تحوّلت الجماعات إلى أدوات انتخابية تحت غطاء تدبير الموارد البشرية؟
ما وراء الأرقام: 300 عامل عرضي في جماعة واحدة
تشير تسريبات حصلت عليها جريدة هسبريس من مصادر مطلعة إلى أن إحدى الجماعات المحلية وظّفت أكثر من 300 عامل عرضي، ضمن موجة توظيفات يغلب عليها الطابع السياسي والمحاباة الحزبية. هؤلاء ليسوا مجرد أرقام، بل كُشِف عن أن عددا منهم لا يمارس أية مهام فعلية، فيما يستفيدون من تعويضات شهرية منتظمة، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام فرضية “العمال الأشباح”.
السؤال المشروع هنا: هل نحن أمام شبكة فساد مالي أم نظام غير مُعلن لتوزيع الريع الانتخابي؟
تقاطع المصالح والخرق القانوني: عندما يصبح المستشار “رب عمل”
التقارير تورد حالات استغلال بشع للصفة التمثيلية، حيث عمد بعض المستشارين الجماعيين إلى إدماج أبنائهم وأقاربهم كعمال عرضيين، بل وتم منح أعضاء جمعيات شركاء للجماعة مناصب مؤقتة دون احترام الضوابط القانونية. مثل هذه الممارسات تثير شكوكا جدية حول تضارب المصالح وضرب مبادئ الشفافية، في وقت تؤكد فيه مضامين منشور وزارة الداخلية لسنة 2009 ضرورة تقنين وضعية هذه الفئة وربطها بحاجيات المرفق العام، لا بولاءات انتخابية أو اعتبارات حزبية.
الجماعة كمجال لاقتصاد الظل المحلي
بعيداً عن الخطاب الرسمي، يبدو أن تدبير العمال العرضيين يشكل امتداداً لاقتصاد الريع المحلي، إذ أظهرت المعطيات وجود عمال “أشباح” يزاولون أنشطة تجارية وصحية موازية، بينما يحتفظون بوظائفهم الجماعية. مثل هذه الوقائع تفضح اختلالات في الرقابة الإدارية وتغذية محتملة لاقتصاد الظل، ما ينسف مبدأ تكافؤ الفرص ويُكرس ثقافة الريع داخل الفضاء الترابي.
هل نحتاج إذن إلى مراجعة جذرية لوظيفة الجماعات في النموذج التنموي الجديد؟ هل تُختزل الجماعة في دور انتخابي ضيق على حساب مهمتها الأساسية كفاعل محلي في التنمية الاجتماعية والمجالية؟
السياق الوطني والدولي: بين حكامة غائبة وضغط المحاسبة
تأتي هذه التقارير في وقت يشدد فيه النموذج التنموي الجديد (2021) على ضرورة تعزيز فعالية وحكامة المرفق العمومي المحلي، وربط المسؤولية بالمحاسبة. كما أن المغرب، المنخرط في اتفاقيات دولية لمكافحة الفساد (اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد)، مطالب بإثبات جديته في محاصرة مظاهر سوء التدبير في مستويات الحكم الترابي.
من جهة أخرى، يكشف تقرير مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية (Transparency International) أن المغرب لا يزال يسجل معدلات مثيرة للقلق في ما يخص الشفافية وحكامة المال العام، ما يطرح التساؤل حول مدى قدرة مؤسسات الرقابة والتفتيش على كبح جماح “اقتصاد المحاباة” في الجماعات.
مسؤولية من؟ وأي أفق للإصلاح؟
توجيه وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت لمراسلة عمال العمالات في وقت سابق حول هذا الملف، ومطالبته برفع تقارير مفصلة عن وضعية العمال العرضيين، يعكس إدراكاً رسمياً لخطورة الظاهرة. غير أن السؤال الأعمق هو: هل تكفي المراسلات الإدارية لإصلاح منظومة متجذرة في عقلية التوظيف السياسي؟
ربما يكون الجواب في تفعيل فعلي لآليات الزجر والمحاسبة، وربط التمويل العمومي للجماعات بمؤشرات النزاهة والفعالية، وإحداث منصات رقمية عمومية تتيح تعقب سير العمال المؤقتين ونشر لوائحهم بشكل دوري للعموم، كما توصي بذلك تجارب دولية ناجحة في الحكامة المحلية.
خلاصة: ملف “العمال العرضيين” ليس مجرد قضية فساد إداري، بل مرآة عاكسة لأزمة بنيوية في العلاقة بين التسيير الجماعي والسياسة. وبين ريع الوظائف وانتظارات المواطنين، تقف الدولة أمام لحظة حاسمة: إما أن تُعيد الاعتبار للجماعة كمؤسسة مواطنة، أو تستمر كأداة لتصفية الحسابات وشراء الولاءات في أسواق السياسة الموسمية.