جرائم “المرضى العقليين”… مسؤولية الدولة أم الأسر ؟

0
215

نهاية الأسبوع الماضي، خلقت جريمة بشعة استياءً كبيرًا في المغرب وفتحت النقاش حول وضعية المختلين عقليًا، فواحد من هذه الفئة قام بقتل والده البالغ من العمر 68 سنة، بواسطة سلاح أبيض مما تسبب في وفاته، قبل أن يطعن زوجة والده (63 سنة) عدة طعنات كانت سببا في مفارقتها الحياة، في أبشع جريمة يشهدها المغرب خلال الأشهر الأخيرة، والتي كانت حي الخدير بمنطقة الحي الحسني (وسط الدار البيضاء) مسرحًا لها.

يعدون بمئات الآلاف حسب إحصاءات رسمية، ويناهزون ثلاثة ملايين حسب أرقام أخرى صادرة عن جهات لا تصدق ما تقوله المؤسسات الرسمية، لكن الأطباء المتخصصين في التخفيف من معاناتهم ومعاناة أسرهم يعدون على رؤوس الأصابع.

ودقت الجريمة ناقوس الخطر في المغرب حول وضعية المختلين عقليا وضحايا الأمراض العقلية، إذ يتجوّل في عدد من المدن المغربية مجموعات المختلين عقليًا بكل حرية، منهم من يعيش في الشوارع، ومنهم من يأوي ليلا لبيت أسرته، وصار عاديا أن يطالع الناس مشاهد مريض عقليًا وهو يقوم بتصرفات غريبة في الشوارع العمومية، بل إن بعضهم يعتدي أحيانًا على المارة.

المبتلون بالأمراض العقلية والنفسية بالمغرب قد تجد منهم في كل حي أو زقاق، غير أنهم لا يجدون مستشفيات تحميهم من نظرات المجتمع وتعيد إليهم توازنهم كي يندمجوا فيه من جديد.

مستشفى واحد لكل 250 ألف شخص، وطبيب واحد لأزيد من مئتي ألف مريض، وممرض واحد لأزيد من ألفي نفر، وسرير لأزيد من 12 ألف شخص، هذا كل ما يتمتع به المصابون بالأمراض العقلية والنفسية في المغرب.

وبحسب إحصائيات قدمتها وزارة الصحة المغربية، فإن حوالي نصف المغاربة، وتحديدا 48 في المائة من الشريحة العمرية التي تبلغ 15 عاما فما فوق، سبق لهم أن عانوا من أمراض مرتبطة بالصحة النفسية والعقلية، مثل الأرق والقلق والاكتئاب ، قد تتحول في غياب المراقبة والمتابعة الطبية، إلى أمراض نفسية وعقلية حادة، تحاول المؤسسات الصحية تجاوز النقص في الإمكانيات، والطواقم الطبية، على الرغم من أن أخباراً عن تجاوزات، وعن عدم حصول المرضى على الرعاية الكافية، تُتداول في وسائل الإعلام.   

مختل عقليا يقترف جريمة بشعة ويضع حدا لحياة متشرد بطريقة مروعة

بعد إقدام شابا عمره 36 سنة المشتبه به الذي يعيش منعزلاً بشقة مجاورة لمسكن عائلته بحي الخدير بمنطقة الحي الحسني، على الاعتداء على والده البالغ من العمر 68 سنة، بواسطة سلاح أبيض مما تسبب في وفاته، قبل أن يطعن زوجة والده (63 سنة) عدة طعنات كانت سببا في مفارقتها الحياة. 

وليست هذه المرة الأولى التي تعلن فيها المصالح الأمنية بالمغرب عن وقوع جرائم المتهمون بارتكابها مرضى عقليون، فبالإضافة إلى القضية السالفة هناك قضايا عديدة من بينها جريمة قتل سائحة أجنبية في مدينة تيزنيت ومحاولة قتل أخرى في مدينة أكادير، منتصف شهر يناير المنصرم.

فقد أعلنت السلطات الأمنية أن المشتبه في ارتكابه تلك الجرائم “سبق إيداعه بجناح الأمراض العقلية بمستشفى الحسن الأول بتزنيت لمدة شهر “، كما قرر قاضي التحقيق إيداعه مستشفى للأمراض العقلية لإجراء فحوص طبية.

الجهود الحكومية تظل رهينة النقص الحاد في الأطباء المختصين في الأمراض النفسية والعقلية أيضاً. إذ ذكرت دراسات أن المغرب يتوفر على 197 طبيباً نفسياً فقط، يعملون في القطاع العمومي، وهو رقم ضعيف بالنظر إلى المعدل العالمي، إذ يُفترض، حسب المعايير الدولية، توافر 3.66 طبيباً مختصاً، لكل مئة ألف نسمة، في حين لا يوفر المغرب سوى أقل من مختص، أي 0.63، لكل مئة ألف نسمة.

في سنة 1918، اختار المستعمر الفرنسي برشيد، ليشيّد فيها أكبر مستشفى للأمراض النفسية والعقلية، والذي سرعان ما احتل المرتبة الأولى إفريقيّاً، بطاقة استيعابية تتجاوز ألفي سرير، وليشكل طوال عقود، إشعاعاً جهوياً ووطنياً وقارياً، خاصةً أن مساحته كانت تضم أكثر من 52 هكتاراً، مع 27 جناحاً، في كل واحد ما يقارب مئة نزيل يتحدرون من مختلف المدن المغربية، وكان من بينهم كذلك بعض العرب من الجزائر، ومصر، والعراق.

 

الاختلالات الكبرى التي تشكو منها منظومة الطب النفسي والعقلي، تكتوي بنارها شريحة واسعة من المواطنين (النساء، والأطفال، والمسنّين، والمدمنين)، وهي أكثر المجموعات عرضة للخطر، فضلاً عن أن غياب العدالة في مجال الولوج إلى العلاج في الطب النفسي والعقلي، وضعف التكافل والحماية الاجتماعية والصحية، وهدر حقوق أساسية للمواطن المصاب بأمراض نفسية وعقلية، مردّها إلى غياب قانون خاص بالأمراض النفسية والعقلية.

وقدّم وزير الصحة المغربي السابق الحسين الوردي، سنة 2017، لمجلس النواب، مشروع القانون الذي يهدف لمكافحة الاضطرابات العقلية والنفسية، وضمان الحماية للمرضى، والالتزام بحقوق الإنسان الخاصة بهذه الفئة المجتمعية.

وكان الوردي قد أكد على أن الغرض من تضمّن نص المشروع عقوباتٍ لمن يعتدي على المرضى، ليس للمعاقبة بالسجن والغرامة المالية فحسب، بل لترسيخ الطابع الحقوقي لهذه الشريحة من المرضى، وصيانة حقهم الدستوري والقانوني في التعامل الإنساني معهم.

وهدفَ مشروع القانون لمراجعة شاملة لقانون سابق حول الوقاية من الأمراض العقلية، ومعالجتها، وحماية المصابين بها، لأن المراجعة فرضها عدم مواكبته لتطور حماية الحقوق والحريات الأساسية لفئة الأشخاص المصابين بالاضطرابات العقلية، في الاتفاقيات الدولية، وفي تشريعات الدول المتقدمة.

ووضع مشروع القانون عقوبات سجنية تتراوح بين عام وخمسة أعوام، وغرامات مالية، لـ”كل من أخضع شخصاً مصاباً باضطرابات عقلية، لمعاملة غير إنسانية، أو مهينة، تسبب له معاناة جسدية أو نفسية”.

وطالت العقوبات السجنية أيضاً مدراء المستشفيات المخصصة للمرضى العقليين والنفسيين، إذ إن كل مسؤول “قد أهمل وضع مريض عقلي، أو نفسي، تحت الملاحظة الطبية، يعاقَب بالسجن من سنة واحدة إلى ثلاث سنوات”.

وتُطبَّق العقوبة نفسها، على أي شخص “حرّض، أو ساعد مريضاً خاضعاً للاستشفاء، على الهرب من المؤسسة العلاجية، أو حاول تحريضه، أو مساعدته على ذلك”.

ظلّ المشروع حبراً على ورق، ونُسي في الرفوف إلى جانب العديد من المشاريع التي وُضعت للدفاع عن الأوضاع المزرية التي يعرفها قطاع الصحة في المغرب، ولم تنجح حكومة سعد الدين العثماني في تمريره.

ويؤدي غياب الرعاية الصحية داخل المستشفيات، إلى انتشار العشرات من المرضى النفسيين في شوارع المدن المغربية، حيث يعيشون بلا مأوى، وهم من الجنسين. ويجد هؤلاء المواطنون أنفسهم في الشارع، بعد أن يتخلى عنهم ذووهم، بسبب كلفة الرعاية المرتفعة، وغياب البنية التحتية لعلاجهم، ومتابعة حالتهم النفسية. هكذا يصبحون عرضةً لقساوة الشارع، ولانتهاكات أخرى قد تصل إلى الاعتداءات الجنسية والاغتصاب.