تحولات الفعل الاجتماعي في المسار الحياتي

0
286

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

1- وظيفةُ الفِعْلِ الاجتماعي لا تُحدِّد تقاطعَ الماضي والحاضرِ في تاريخ الأفكار فَحَسْب ، بَلْ أيضًا تُحدِّد طبيعةَ تفكيرِ الفرد في المُجتمع ، وهذا يدلُّ على أنَّ المَسَارَ الحَيَاتي _ فَرْدِيًّا وجَمَاعِيًّا _ هو خَلِيطٌ وُجودي مِن الفِعْلِ والزَّمَنِ والتفكيرِ . والعلاقةُ بين هذه العناصر تَبَادُلِيَّة لا تَرَاتُبِيَّة ، أي إنَّها دائمة التَّبَدُّل والتَّغَيُّر ، ويُعَاد تَشكيلُها وصِيَاغَتُهَا باستمرار ، وَلَيْسَتْ مَنظومةً جامدةً يَجِد كُلُّ عُنْصَرٍ نَفْسَه مُرتبطًا بالذي يَلِيه . وكما أنَّ الماء يَأخُذ شكلَ الإناءِ الذي يُوضَع فيه ، كذلك هذه العناصر تَأخُذ شكلَ البناءِ الاجتماعي الذي تُوضَع فيه ، وهذا يُسَاهِم في تحليلِ أبعاد شخصية الفرد عَلى الصَّعِيدَيْن الأخلاقي والقِيَمِي ، وتفسيرِ معالم هُوِيَّة المُجتمع عَلى المُسْتَوَيَيْن الإنساني واللغوي ، وإدراكِ الأهمية الفِكرية للفردِ والمُجتمعِ . وإذا كانت شخصيةُ الفردِ هي رِحلةَ البحثِ عن المَعنى لإيجاد أجوبة منطقية عن أسئلة الوُجود ، فَإنَّ هُوِيَّةَ المُجتمع هي مَركزيةُ المعرفة في طبيعة التاريخ التي تُفْرِز تأويلاتٍ جَديدة للواقع المُعَاش ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادةِ بناء الوَعْي خارج حُدود البيئة الضَّيقة ، وإعادةِ تفسير الزَّمَن خارج إطار المصالح الشخصية العابرة . وإذا نَجَحَ الفِعْلُ الاجتماعي في تَحديدِ حَجْم الثَّغَرَات الوُجودية في الوَعْي ، وكَشْفِ مَسارات القطيعة المعرفية في الزَّمَن ، فَإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيُصبح فَاعِلِيَّةً حَيَاتِيَّةً تَمْنَع النظامَ الاستهلاكي القاسي مِن اقتلاعِ شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع مِن التاريخ . وكُلُّ فِعْلٍ لا يُصبح إرادةً للحياة سَيَتَحَوَّل إلى وَهْم ، وكُلُّ شَخصيةٍ لا تُصبح تَشخيصًا للمَعنى سَتَتَحَوَّل إلى قِنَاع ، وكُلُّ هُوِيَّةٍ لا تُصبح أُفُقًا نَقْدِيًّا سَتَتَحَوَّل إلى فَرَاغ .

2 – بُنيةُ الفِعْلِ الاجتماعي لا تَنفصِل عَن وَعْي الفرد بالزَّمَن المَعرفي الذي يَتَجَسَّد في تاريخ الأفكار حِينًا ، وحِينًا آخَر يَتَجَسَّد في الأحلام المَنْسِيَّة على هوامش تاريخ الأفكار. وَعَدَمُ الانفصالِ يَعْنِي أنَّ الترابط بَين الفِعْلِ الاجتماعي وَوَعْيِ الفرد لَيْسَ إجراءً آلِيًّا تِلقائيًّا ، وإنَّما هو عَلاقةٌ قَصْدِيَّة ذات طبيعة إنسانية تُعيد الفردَ إلى الواقع المُعَاش ، وتَحْمِيهما مِن الاغترابِ ، وتُعيد المُجتمعَ إلى النَّسَق الثقافي ، وتَحْمِيهما مِن الاستلاب . والزَّمَنُ المَعرفي لَيْسَ نَوَاةً مَركزيةً تَدُور حَوْلَها تفاصيلُ البناءِ الاجتماعي بشكل مِيكانيكي ، وإنَّما هُوَ جَسَدٌ سائلٌ يَتِمُّ تَكثيفُه فِكريًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا ، مِن أجلِ تَوظيفِه في شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع ، وهذا يُؤَدِّي إلى تَفعيلِ إرادة المعرفة في الحياة العملية ، وتأكيدِ القُدرة الإنسانية على حُرِّيةِ التَّعبير والتَّحَرُّرِ مِنَ الخَوْف ، وَبِنَاءِ علاقات اجتماعية قادرة على التماسك تحت ضغط النظام الاستهلاكي القاسي. ولا يُمكِن أن يُصبح تاريخُ الأفكارِ ( المركزي والهامشي ) صَيرورةً حَيَاتِيَّةً ، وتفسيرًا لُغَوِيًّا دائمًا ، وتَجسيدًا أخلاقيًّا مُستمرًّا ، إلا إذا اندمجَ الفِعْلُ الاجتماعي معَ الزَّمَن المَعرفي ضِمْن العَقْلِ الجَمْعِي الباطني والظاهري، وَمَنْطِقِ اللغة الرَّمزي والتواصلي . وهذه التراكيبُ الوُجودية تُمثِّل مَنهجًا نَقْدِيًّا ، وَشَبَكَةً مَعنويةً مُتكاملةً ، ونَسِيجًا ماديًّا مَفتوحًا على حَتميةِ المَعنى الإنساني، واحتمالاتِ التأويل الاجتماعي. ولا يُوجَد فِعْلٌ يَتَكَرَّس خارج الزَّمَن، ولا يُوجَد زَمَنٌ يَتَحَرَّك في العَدَم، ولا شَرْعِيَّة للمُجتمع خارج إطار المعرفة ، ولا جَدْوَى مِن المَعرفة في مُجتمع عَاجِز عَن التَّغيير .

3 – مَاهِيَّةُ الفِعْل الاجتماعي تَقُوم على ثلاثة أُسُس : عَقْلَنَة الواقع المُعَاش ( إضفاء شكل عقلاني عليه ) ، وتَحويل المسار الحَيَاتي إلى نَسَق ثقافي ، واكتشاف الطبيعة الإنسانية في شخصية الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع . وهذه الأُسُسُ تَفتح آفاقًا جديدةً لتأويلِ تاريخ الأفكار ضِمْن اللغة بأبعادها الرمزية والعقلانية والعاطفية ، وتأويلِ دَلالات اللغة ضِمْن تاريخ الأفكار بأبعاده الفِعلية والزَّمَنية والفِكرية. وهذه الآفاقُ الجديدة تُؤَسِّس مناهجَ نَقْدِيَّةً قادرةً على تجذير العلاقات الاجتماعية _ مَعرفيًّا وَوِجْدانيًّا وإبداعيًّا _ في السِّيَاقِ الواقعي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى ربط تَسَلْسُلِ المُجتمع الهَرَمِي معَ حُرِّيةِ الفرد في التَّفكير والتَّعبير ، وهذا الأمرُ شديدُ الأهمية ، لأنَّه يَدفَع الفردَ باتِّجَاه نَقْد الذات لمعرفة نِقاط قُوَّته ونِقاط ضَعْفه ، وإعادةِ رسم مَسَاره بَحْثًا عَن مَوقع في البناء الاجتماعي ، كما يَدفَع المُجتمعَ باتِّجَاه تَطوير مَصلحته للتَّحَرُّر مِن التَّبَعِيَّةِ والإملاءاتِ.وتَطويرُ المَصلحة مُرتبط بإرادة المعرفة في الحياة الفِكرية ، ومَركزيةِ الوَعْي الحَضَاري في الحياة العملية ، لأنَّ المَعرفةَ أساسُ المَصلحةِ ، يُوجَدان مَعًا ، وَيَغِيبان مَعًا ، ولا يَستطيع المُجتمعُ أن يُطَوِّر مَصْلَحَتَه ، ويُرَسِّخ مَعْرِفَتَه ، إلا إذا أكَّدَ سُلْطَتَه ، وهذا لا يَتَأتَّى إلا بالتوافق بين شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع ضِمن تَحَوُّلات الفِعْل الاجتماعي في المَسَار الحَيَاتي .