ليلى بنعلي بلندن: كيف يرسم المغرب معالم أمن طاقي جديد في عالم متحول؟

0
144

في خضم تحولات دولية عاصفة تمس بنية الطاقة والاقتصاد العالميين، لم تكن مشاركة وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، ليلى بنعلي، بلندن مجرد حضور بروتوكولي ضمن قمة “مستقبل أمن الطاقة”، بل كانت لحظة دبلوماسية استراتيجية اختار فيها المغرب أن يُعلن – وبوضوح – أن رؤيته الطاقية ليست رد فعل لأزمات ظرفية، بل مشروع دولة متكامل يستمد جذوره من التوجيهات الملكية.

فهل نحن أمام تحول في تموضع المغرب كلاعب إقليمي ودولي في معادلة الطاقة؟ وما الذي يجعل خطاب الوزيرة بنعلي ملفتاً من حيث توقيته ومضامينه؟

الرؤية الملكية: من خطاب استباقي إلى مشروع سيادي

في كلمتها خلال الجلسة الوزارية بلندن، أعادت ليلى بنعلي التأكيد على الرسالة السامية التي بعث بها الملك محمد السادس إلى قمة المناخ (كوب 28)، وهي رسالة لم تدعُ فقط إلى تجاوز منطق “التدرج البطيء” في التحول الطاقي، بل قدمت مقاربة تقوم على التسريع والجرأة وإعادة الهيكلة.

هذه الإشارة الملكية لم تكن مجرد توصية سياسية، بل تحوّلت، كما ظهر في خطاب الوزيرة، إلى مبدأ استراتيجي يقود السياسات المغربية نحو “السيادة الطاقية”. وهذا المفهوم، الذي غالباً ما يُستخدم في سياقات الدول الكبرى، بات اليوم جزءاً من لغة مغربية جديدة تُراهن على الاستقلال، وليس فقط على التكيف مع المتغيرات.

لكن ما معنى السيادة الطاقية بالنسبة لدولة متوسطة الدخل؟ وكيف يمكن تحقيقها في ظل شبكات طاقة دولية تتسم بالهشاشة والارتباطات المعقدة؟

الاستثمار في المستقبل بدل إدارة الأزمات

أحد أبرز ملامح هذا الخطاب الجديد هو التحول من منطق “الاستجابة للأزمات” إلى منطق “الاستثمار في التحول”. فالوزيرة أكدت أن سنة 2025 ستكون لحظة مفصلية في مسار السياسات الاستثمارية، من خلال مضاعفة الاستثمارات السنوية في مشاريع الطاقات المتجددة أربع مرات، وزيادتها خمس مرات في شبكة الكهرباء.

هنا يظهر المغرب وكأنه يتبنى دبلوماسية تنموية قائمة على جرأة التخطيط بدل الاكتفاء بردود الأفعال. لكنه أيضاً يعيد رسم علاقته مع المؤسسات الدولية، خصوصاً حين دعت الوزيرة إلى إعادة هيكلة مؤسسات التمويل متعددة الأطراف، لخلق إطار مالي دولي أكثر مرونة وعدلاً، قادر على مواكبة متطلبات السيادة الطاقية للدول الصاعدة.

فهل تلقى هذه الدعوة صدى لدى المؤسسات الكبرى؟ أم أن منطق التحكم المالي العالمي سيبقى عائقاً أمام تطلعات الجنوب؟

من الجزيئات إلى العدالة الطاقية: تحوّل في المفهوم

اللافت في خطاب بنعلي هو تجاوزها للمفهوم التقليدي للأمن الطاقي، والذي غالباً ما يُختزل في تأمين الإمدادات من “الجزيئات” و”الإلكترونات”، لتقترح تصوراً أكثر شمولاً يشمل:

  • إعادة هيكلة المنظومة الطاقية.

  • تعزيز الشراكات الاستراتيجية.

  • تأمين الأصول وسلاسل القيمة.

  • اعتماد العدالة الاجتماعية والطاقية.

  • دمج مبادئ التنمية المستدامة.

  • وتبني نماذج ذكية في تدبير الشبكات الكهربائية.

هذا التنوع في الأبعاد يطرح سؤالاً محورياً: هل نحن أمام تحول من مفهوم الأمن الطاقي التقني إلى مفهوم الأمن الطاقي المجتمعي؟ وهل يمكن تحقيق العدالة الطاقية في ظل التفاوتات الاجتماعية والمجالية داخل الدول نفسها؟

مشروع الأنبوب الإفريقي-الأطلسي: هل يصبح المغرب عقدة طاقة قارية؟

في محور بالغ الأهمية، كشفت الوزيرة عن تقدم مشروع أنبوب الغاز الإفريقي-الأطلسي، بميزانية ضخمة تصل إلى 6 مليارات دولار، لربط الغاز بين القارة الإفريقية وأوروبا، مشيرة إلى أنه يشمل أيضاً الهيدروجين الأخضر.

هنا يتجاوز المغرب دوره كمجرد ناقل للطاقة، إلى لاعب إقليمي مؤثر في مستقبل الطاقة النظيفة. فهل نحن أمام بداية لتحول المغرب إلى منصة استراتيجية بين الجنوب والشمال؟ وكيف ستتعامل أوروبا مع هذا التحول، وهي تبحث عن شركاء موثوقين بعد أزمة الغاز الروسي؟

السياق الدولي: الطاقة لم تعد مسألة تقنية بل قضية سيادة وجيوسياسة

من الواضح أن قمة “مستقبل أمن الطاقة”، التي نظمتها وكالة الطاقة الدولية بحضور شخصيات وازنة مثل فاتح بيرول وإد ميليباند، جاءت في سياق دولي شديد التعقيد:

  • النزاعات في أوكرانيا والشرق الأوسط.

  • تصاعد التنافس على مصادر الطاقة.

  • التحول نحو الهيدروجين والطاقات المتجددة.

  • وتنامي الفجوة التمويلية بين الدول النامية والمتقدمة.

وسط هذا المشهد، تسعى دول مثل المغرب إلى صياغة سرديتها الطاقية الخاصة، قائمة على الاستقلال والابتكار. لكن نجاح هذه المقاربة يتطلب ليس فقط بنية تحتية حديثة، بل نخبة سياسية واقتصادية قادرة على تنفيذ هذه الرؤية على الأرض.

خلاصة: رؤية مغربية للسيادة في زمن الارتباك الطاقي

إن خطاب ليلى بنعلي في لندن لا يمكن عزله عن السياق الملكي الأشمل الذي يعتبر التحول الطاقي مدخلاً لتحقيق أمن استراتيجي شامل: اقتصادي، بيئي، واجتماعي. وإذا كان المغرب اليوم يطرح نفسه كفاعل في إعادة تشكيل ملامح أمن الطاقة العالمي، فذلك يعود لقدرته على الجمع بين الرؤية، والواقعية، والجرأة.

يبقى السؤال المطروح:
هل تنجح المملكة في تحويل هذه الرؤية إلى نموذج فعلي يحتذى به إقليمياً؟

أم أن العقبات الداخلية والخارجية ستجعلها مجرد استراتيجية طموحة تنتظر لحظة التنفيذ؟