موسم الهجرة إلى الشمال: هل هو فصل اليأس أم مؤشر على فشل النموذج التنموي؟

0
102

مع كل صيف، لا تشتد حرارة الطقس فحسب، بل تشتد أيضًا حرارة “قوارب الموت”، التي تتحول إلى خيار مأساوي يعيد إلى الواجهة أسئلة عميقة حول جدوى السياسات الاجتماعية والاقتصادية في المغرب، خاصة في المناطق الشمالية التي ظلت لعقود تختزن خيبة الأمل، وها هي تجد في البحر الأبيض المتوسط مخرجًا رمزيًا من الانسداد.

إن مشهد الشباب وهم يتأهبون لركوب البحر، ليس مجرد حكاية فردية عن مغامرة يائسة، بل هو في العمق تعبير عن خلل بنيوي في توزيع الثروات، واحتقان اجتماعي صامت، لا تعبّر عنه المظاهرات بقدر ما تعبّر عنه خيوط التهريب البحري التي تمتد كل صيف، لتصنع فصول الهجرة السرية من جديد.

من يحرك “قوارب الموت”؟ الشباب، أم الفقر، أم الحلم الأوروبي؟

بحسب تقارير الفرونتكس (Frontex) للعام 2023، فإن محاولات الهجرة غير النظامية من غرب المتوسط – وبشكل خاص من السواحل المغربية الشمالية – شهدت ارتفاعًا بنسبة تقارب 20% خلال أشهر يونيو ويوليو وأغسطس، مقارنة بالفترات الأخرى من السنة، وهو ما يعكس الطبيعة الموسمية لهذه الظاهرة، لكن الأهم أنه يكشف عمق الأزمة لا ظرفيتها.

ففي القصر الكبير، العرائش، الحسيمة، وحتى نواحي تطوان وطنجة، تتكرر الحكاية: أبناء يائسون، عائلات مرهقة، و”حرّاكة” يُنظر إليهم لا كخارجين عن القانون، بل كمغامرين في سبيل النجاة.

حالة الشاب ابن محمد الكبيري، كما أوردها تقرير هسبريس، ليست استثناء، بل هي النموذج المتكرر: شاب يبلغ 28 عامًا، بلا تعليم فعلي، بلا أفق اقتصادي، يعيش على نفقة والده، ويشعر بالإهانة كلما شاهد سيارات “المهاجرين” تعود إلى الحي. أليست هذه المفارقة كفيلة بهدم الخطاب الرسمي عن “العدالة المجالية” و”فرص الشباب”؟

خطاب التنمية في مواجهة رواية “الحريك”

المؤشرات الوطنية تبدو مربكة، فرغم البرامج الرسمية مثل “أوراش” و”فرصة” ومخططات التشغيل الجهوي، إلا أن الشباب لا يرون فيها سوى حلول جزئية أو مؤقتة. تقرير المندوبية السامية للتخطيط (2024) أشار إلى أن حوالي 47% من الشباب المغاربة بين 15 و29 سنة خارج سوق العمل، ولا يتابعون دراسة أو تكوينًا.

هذا الرقم وحده كافٍ لتفسير لماذا تتحول الهجرة إلى حلم جماعي، ولماذا لا تُقنعهم المبادرات الموسمية، ولا حتى التحذيرات الأمنية من خطر الموت في عرض البحر.

قصص النجاح… بين الحقيقة والوهم

أحد المفاتيح الأساسية لفهم الظاهرة يتمثل فيما أشار إليه الباحث خالد مونة: “قصص النجاح” التي يرويها بعض المهاجرين العائدين خلال الصيف. هؤلاء يصبحون، من حيث لا يدرون، سفراء غير رسميين للحلم الأوروبي، حين يظهرون بمظهر ميسور، حاملين أوراق الإقامة، وقادرين على اقتناء سيارات فاخرة أو توزيع الهدايا.

لكن خلف هذه الصورة، توجد معاناة صامتة. تشير تقارير Eurostat وOMI إلى أن نسبة كبيرة من هؤلاء المهاجرين يعملون في ظروف هشة وغير قانونية، ويتعرضون للاستغلال في قطاعات الزراعة أو البناء أو الرعاية الاجتماعية. فلماذا لا تصل هذه القصص إلى مسامع من يفكر في “الحريك”؟ ومن يملك سلطة السرد داخل المجتمعات المحلية؟

موسم الهجرة كعرض لأزمة عميقة

تتكرر الظاهرة سنويًا، لكن التفاعل الرسمي معها لا يتجاوز عادة المقاربة الأمنية: تشديد المراقبة على السواحل، تفكيك شبكات التهريب، حملات تحسيسية متفرقة… لكن ماذا عن الأجوبة السياسية والتنموية؟ أليس من الأجدى مساءلة نموذج التنمية نفسه بدلًا من ملاحقة “الحرّاكة”؟

ربما آن الأوان للتوقف عن التعامل مع الظاهرة كـ”حالة إنسانية” موسمية، والنظر إليها باعتبارها مؤشرًا استراتيجيًا لفشل السياسات العمومية في استيعاب طاقات الشباب وتحقيق التوازن المجالي.

خاتمة مفتوحة: ماذا بعد؟

في ظل التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية، من أزمة التضخم في أوروبا، إلى تشديد قوانين اللجوء والهجرة، تتقلص فرص النجاح في “الحريك”، بينما يزداد اليأس محليًا. فهل نحن أمام جيل جديد من المهاجرين يتقن خريطة الموت أكثر من خريطة الحياة؟ أم أن الفرصة ما تزال ممكنة إذا ما تم تغيير النماذج التنموية من العمق؟

إنها أسئلة لا ينبغي أن تبقى موسمية مثل الهجرة نفسها.