أكبر حملة تطهير سياسي في تاريخ الجماعات: القضاء يلاحق 300 منتخب والداخلية تعزل العشرات

0
276

حين تتحرك وزارة الداخلية: هل تعيد الدولة ضبط بوصلة الديمقراطية المحلية أم تضع حدوداً جديدة للسلطة المنتخبة؟

في هدوء المؤسسات وارتباك المجالس المنتخبة، يخرج تقرير وزارة الداخلية برسم سنة 2025 كجرس إنذارٍ في فضاء الحياة الجماعية المغربية. أكثر من 300 منتخب أمام القضاء، وعشرات حالات العزل في مختلف جهات المملكة. إنها ليست مجرد أرقام؛ بل هي مشاهد متفرقة من قصة واحدة: قصة التوتر الدائم بين المسؤولية والمصلحة، بين الشرعية الانتخابية وسلطة القانون.

أرقام تكشف ما وراءها

تقول وزارة الداخلية بوضوح: هناك 302 متابعة قضائية تطال منتخبين من مختلف المستويات، من رؤساء جماعات إلى أعضاء عاديين، مروراً بنوابهم. لكن خلف هذه الأرقام، يقف واقعٌ يعكس عمق الأزمة الأخلاقية والقانونية في تدبير الشأن المحلي.
فـ”المخالفة” هنا لا تتعلق بخطأ إداري عابر، بل غالباً ما تتصل بتنازع المصالح، أو باستعمال النفوذ، أو بتجاوز السلطة لخدمة مصالح خاصة.

السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تتحول الثقة الانتخابية التي يمنحها المواطن إلى وسيلة لاستغلال النفوذ؟ وهل الخلل في المنتخب ذاته، أم في النظام الذي لا يزال يضع السلطة قبل المسؤولية؟

ما بين المتابعة والعزل: أيّ حدود للرقابة؟

تقرير الداخلية يكشف أن المديرية العامة للجماعات الترابية توصلت بـ216 طلباً لعزل المنتخبين، تم إحالتها على المحاكم الإدارية المختصة، التي بدورها أصدرت أحكاماً بحل ثمانية مجالس جماعية وإقالة 63 عضواً. إنها لغة القانون حين يستعيد زمام المبادرة، لكنّها أيضاً لغة القلق من تآكل الثقة في المؤسسات المنتخبة.

هل أصبح اللجوء إلى القضاء هو الحل الوحيد لتقويم اعوجاج الممارسة الديمقراطية؟ أم أننا أمام مرحلة جديدة من “التأطير الصارم” الذي يهدف إلى إعادة الانضباط الإداري بعد سنوات من التساهل؟

الداخلية كحارس أخلاقي للديمقراطية؟

اللافت أن الوزارة لم تكتف بالإجراءات، بل أسست لنمط جديد من المتابعة القانونية. فقد أحيلت عشرات الاستشارات المتعلقة بتنازع المصالح، والعزل، وفقدان الأهلية، وتغيير الانتماء السياسي، وحتى قضايا أخلاقيات المرفق العمومي. هنا تظهر إرادة واضحة لإعادة تعريف مفهوم المنتخب، لا كفاعل حرّ، بل كـ”خادم عمومي” يخضع لقواعد السلوك والمسؤولية القانونية.

لكن، هل يمكن للدولة أن تلعب دور “الحَكم الأخلاقي” في الديمقراطية دون أن تتحول إلى طرفٍ فيها؟ وهل تنجح هذه الصرامة في استعادة الثقة المفقودة بين المواطن والمجالس المنتخبة؟

السلطة المحلية.. بين التمكين والمساءلة

ما يجري اليوم يمكن قراءته من زاويتين:

  • الأولى ترى في المتابعات والعزل تجسيداً لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتأكيداً على أن لا أحد فوق القانون.

  • أما الثانية، فتخشى من أن تتحول هذه الموجة إلى آلية مركزية جديدة لتقويض استقلالية القرار المحلي، تحت شعار “التنقية الأخلاقية”.

وفي كلتا الحالتين، يبقى المشهد واحداً: مجالس ترابية متصدعة، رؤساء يعيشون في ظل المتابعات، ومواطنون يتابعون المشهد بعيونٍ متوجسة، بين من يصفق لتدخل الدولة، ومن يخشى أن تتحول الديمقراطية المحلية إلى مجرد واجهة قانونية.

المجتمع في قلب العاصفة

وراء هذه الملفات القضائية، هناك قصص مواطنين وجمعيات مدنية قدمت شكاياتها دفاعاً عن المال العام والشفافية.إنها إشارة إلى وعي جديد يتشكل في المجتمع المغربي: وعي يعتبر أن الديمقراطية لا تكتمل عند صناديق الاقتراع، بل تبدأ بعد ذلك، في مراقبة الأداء والمحاسبة المستمرة.

لكن، إلى أي مدى سيستمر هذا الوعي إذا لم يلمس المواطن أن العدالة تسير نحو إصلاح حقيقي لا نحو تصفية حسابات سياسية؟

أسئلة لا تزال معلقة

  • هل هذه الإجراءات مؤشر على مرحلة جديدة من الصرامة المؤسساتية التي تضع حداً لعقود من التساهل؟

  • أم أننا أمام لحظة “تطهير” مؤقتة ستفقد زخمها بمجرد هدوء العاصفة؟

  • وهل يمكن الحديث عن إصلاح ديمقراطي حقيقي دون إصلاح جذري في بنية الجماعات نفسها، وطريقة انتخاب مسؤوليها، وآليات الرقابة على قراراتهم؟

خاتمة مفتوحة

في نهاية المطاف، ما يجري ليس مجرد تفعيلٍ للقانون، بل إعادة رسمٍ لحدود الديمقراطية المحلية في المغرب.

الدولة تقول: لا أحد فوق القانون. والمجتمع يردّ: القانون يجب أن يكون فوق الجميع. بين القولين، تمتد مساحة صراع رمزي عميق بين من يريد إصلاحاً من الداخل، ومن يرى أن الإصلاح يبدأ من إعادة بناء الثقة في الخارج — ثقة المواطن في أن صوته لا يُستغل، وأن ممثله لا يتحول إلى خصمه.

إنها لحظة مغربية دقيقة، حيث يتقاطع القانون مع الأخلاق، والسلطة مع المسؤولية، والديمقراطية مع المراقبة. والسؤال الأعمق: هل نحن أمام بداية تحول في الثقافة السياسية المحلية، أم أمام فصل جديد من “الإصلاح الموسمي” الذي يعيد إنتاج الأعطاب نفسها كل بضع سنوات؟