مع اقتراب معركة الاستحقاقات الانتخابية بالمغرب، أعلنت بعض القيادات السياسية حالة النفير العام في صفوف أحزابها استعدادا لقطع الطريق أمام مسيرة رجال الأعمال نحو الزعامة السياسية والحزبية، نفير عام لمواجهة زواج المال والسياسة الذي يهدد في اعتقادها قواعد التنافس الانتخابي الشريف والبناء الديمقراطي بأكمله!
فهل انفصل المال عن السياسة في يوم من الأيام وفي كل بقاع العالم حتى يقترنا مجددا؟ وما هي الأهداف الحقيقية وراء حالة النفير العام هذه؟ وما المسكوت عنه في انتفاضة الطبقة السياسية التقليدية على رجال الأعمال ؟
الزواج الكاثوليكي بين السياسة والمال
اقترن المال بالسياسة منذ ما يزيد عن تسعة آلاف سنة، فقد ارتبط كل واحد منهما بالآخر منذ تشكل أول المجموعات السكانية المستقرة وتبلور أول أشكال مؤسسات تدبير العيش المشترك والتمييز بين الحاكمين والمحكومين، بفضل ما وفره اكتشاف الزراعة من إمكانيات الاستقرار في إطار مجموعات سكانية كبيرة. فالسلطة في كل المجتمعات قديما وحديثا كانت دائما في حاجة إلى المال كي تستمر وتفرض هيبتها، كما أن المال كان دائما في حاجة إلى سلطة تحميه (أنطر كتاب المفكر يووال نوح هراري “Sapiens : une brève histoire de l’humanité “).
حتى في أعتى البلدان شفافية هناك زواج بين السياسة والمال، ففي بلاد النرويج التي تعتبر من أبطال الشفافية في العالم (حصلت النرويج على 84 نقطة من أصل 100 نقطة في آخر تقرير لمنظمة الشفافية العالمية برسم سنة 2019) لا أحد يعكر زواج السياسة بالمال، ما دام هذا الزواج منتج للرفاهية والعيش الكريم ويضمن ريادة بلاد النرويج في العديد من المجالات، فهي نموذج في الحَكَامَة والديمقراطية إلى جانب جيرانها من الدول الإسكندنافية.
في بلاد النرويج حيث يتمتع المواطنون بحرية الوصول إلى الوثائق الإدارية بمقتضى قانون 1970، سُمحَ للمواطنين بالوقوف عند الأسباب التي جعلت حكومتهم تضخ 43 مليار أورو من المال العام في حسابات الأبناك الخاصة، لإنقاذها من شبح الإفلاس جراء تداعيات الأزمة المالية لسنة 2008 ؛ ومن جملة تلك الأسباب نجد علاقة الصداقة المتينة بين وزيرهم الأول ورئيس أكبر البنوك النرويجية. فقد اطلع النرويجيون على رسالة من رئيس أكبر البنوك النرويجية (DnB Nor)، السيد رون بجيرك (Rune Bjerke)، موجهة إلى وزيرهم الأول جونس سطولنبرغ (Jens Stoltenberg) ، يطلب منه الإسراع بإنقاذ البنوك الخاصة.
أنقذت الحكومة النرويجية بنك صديق الوزير الأول، وعم جدل كبير بلاد النرويج بشأن سلامة قرار الحكومة من الناحية القانونية والأخلاقية، وخلص كل ذلك الجدل الكبير إلى تمكين الوزير الأول من ولاية انتخابية أخرى ولم يغادر الوزارة الأولى إلا سنة 2013، ليتولى بعدها مهام الأمين العام لحلف شمال الأطلسي إلى حدود اليوم. في النرويج، المواطنون لا تستهويهم إضاعة الوقت في نقاشات سوريالية من قبيل زواج السياسة والمال، كل ما يهمهم هناك هو التقيد بالقانون وربط المسؤولية بالمحاسبة ونجاعة التدبير العمومي لتحقيق الرفاه العام.
في كل بلدان العالم يسير المال والسياسة جنبا إلى جنب، حتى الحزب الشيوعي الصيني خلق رجال أعمال كبار من أعضاء الحزب ومكنهم من كل الإمكانيات من أجل تحقيق الأهداف الإستراتيجية الكبرى للصين، من خلال اكتساح الأسواق وجذب الإستثمارات الخارجية، والمساهمة في إنجاح مشروع طريق الحرير (La route de la soie).
فدور رجال الأعمال داخل الحزب الشيوعي الصيني، ليس سرا من أسرار الدولة، بل أخبارا تسوقها جريدة الشعب لسان حال النظام الصيني، كما هو الحال سنة 2018 حينما أعلنت بالبنط العريض عن التحاق جاك ما (Jack Ma) بالحزب، وهو للتذكير أحد أغنى رجالات الأعمال في الصين وأكثرهم تأثيرا (تبلغ ثروته 46 مليار أورو!).
المسكوت عنه في الحملة على رجال الأعمال
قلبت أزمات سبعينات القرن الماضي الكثير من موازين القوى عبر العالم، وساهم الفكر النيوليبرالي بتعبيراته التاتشرية والريغانية في تسريع تفكيك العديد من المنظومات الفكرية كما قوضت أسس دولة الرعاية. عمليات التفكيك تلك كانت في صالح السوق الذي أصبح المرجع والحكم، ولأنه كذلك فقد أصبحت لأبطاله من رجال الأعمال الناجحين والخبراء مكانة خاصة داخل مجتمعاتهم. هذه التحولات، وغيرها مما لم نذكره، عمقت الروابط بين المال والسياسة، كما وضعت محترفي السياسة الديماغوجيين في موقع المدافع عن القلاع التي لم تسقط بعد أمام تقدم رجال الأعمال وعزوف الشعوب عن السياسة وفقدانها للثقة في الطبقة السياسية التقليدية.
مع كل هذه التحولات، لم يعد للطبقة السياسية التقليدية الديماغوجية غير بيع الكلام والأوهام، وممارسة أعمال السخرة لصالح أبطال عالم المال والأعمال. فأزمة السياسة ببلدان الإتحاد الأوروبي مثلا، تعود بالأساس إلى فشل وعجز الطبقة السياسية التقليدية يمينها ويسارها، والتي تتنافس قياداتها على الكراسي وكسب ود الشركات الكبرى، ما دفع الشعوب إلى المطالبة بتقنين عمل جماعات الضغط حماية لما تبقى من مصداقية المؤسسات التشريعية والتنفيذية. (يراجع في هذا الباب كتاب “Le prix de la démocratie” للإقتصادية الفرنسية جوليا كاجي، على سبيل المثال لا الحصر).
لقد دفع جشع وعجز الطبقة السياسية التقليدية بالعديد من رجال الأعمال إلى النزول إلى الميدان السياسي الحزبي في الكثير من دول العالم، واكتسح الكثيرون منهم الانتخابات (أنظر مقالنا ” قراءة في مسيرة رجال الأعمال نحو الحُكم “)، وعبرت الكثير من الشعوب عن تفضيلها لحكم رجال الأعمال بدل حكم مجموعة من ممارسي السخرة لفائدة الشركات الكبرى. فالشعوب اقتنعت بأنه لاجدوى من التعامل مع الدمى، لذلك اختارت التعامل مع مُحَركي الدمى.
في المغرب يعرف المواطنون بأن السياسيون الديماغوجيون يبيعون خدماتهم لعالم المال والأعمال، مقابل ضخ الأموال في حسابات الأحزاب لتمويل الحملات الإنتخابية ؛ وأحيانا تضخ الأموال في جيوب السياسيين. المغاربة يعرفون أيضا بأن أغلب السياسيين التقليديين (إلا بعض الاستثناءات) يتحولون بعد مرورهم من البرلمان أو الوزارة إلى رجال أعمال وأثرياء. هذه العينة من السياسيين تلهث وراء المال والريع السياسي سعيا منها للانتقال إلى عالم الأعمال، لكنها في الوقت نفسه ترفض انتقال رجال الأعمال إلى عالم الريادة السياسية والحزبية، خوفا من فقدان دور الوساطة بين عالم الأعمال والمال من جهة والشعب من جهة أخرى.
على سبيل الختم
في سنة 2001 أسس الراحل عبد الرحيم الحجوجي حزب القوات المواطنة، وقد كان مسلحا بنجاحه الكبير في إصلاح الإتحاد العام لمقاولات المغرب (CGEM) وبشعبية كبيرة في أوساط المقاولات والنقابات، ومسلحا أيضا بالنزاهة والأخلاق التي كان يتمتع بها. كانت مبادرة الراحل الحجوجي مليئة بالرسائل ومعبرة عن قلق كبير من تدبير الحقل الحزبي والشأن السياسي من طرف طبقة سياسية تقليدية اصبحت عبئا على المشهد الحزبي ومصدرا لجزء كبير من العلل التي تنخر الجسم السياسي.
لم يستطع حزب القوات المواطنة تحقيق أية نتائج مهمة سواء في استحقاقات 2002 أو استحقاقات 2007، بسبب أعطاب الحقل الانتخابي وصعوبة مجاراة الفاعل السياسي التقليدي الديماغوجي في ممارساته “غير النظيفة” لاستمالة الناخبين.
فشل المشروع السياسي للراحل الحجوجي، وساد ارتياح كبير في أوساط الطبقة السياسية التقليدية… فهي تكره رجال الأعمال لكنها تحب ممارسة السخرة لفائدتهم مقابل ضخ الأموال في حسابات أحزابها.
فهل ينجح النفير العام مرة أخرى في توقيف مسيرة رجال الأعمال نحو القيادة والزعامة السياسية والحزبية؟