1 – التَّحَوُّلاتُ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية لَيْسَتْ انعكاسًا سَاذَجًا لحركة الأفراد في تفاصيل الحياة اليومية، وإنَّما هي تَحَوُّلات ناتجة عن التَّحليل النَّقْدِي لِجُذُور المُجتمع في أعماقِ الوَعْي التاريخي ، وتعقيداتِ النَّسَق الحضاري . والتحليلُ النَّقْدِي هو الضَّمَانةُ الأكيدة لحفظِ كِيَان المُجتمع مِن الفَوْضَى ، وحمايةِ كَينونة التاريخ مِن التَّشَظِّي ، لأنَّ مَفهومَ التحليل قائمٌ على تفكيكِ الفِكْر إلى عوامل أوَّلِيَّة ، وإعادتِه إلى أنويته الداخلية ، ومفهوم النَّقْد قائمٌ على كَشْف الثَّغَرَات في جُذورِ المُجتمع المَخْفِيَّة ، وكِيَانِه الظاهري . والارتباطُ العُضْوِي بَين التحليلِ النَّقْدِي والتَّحَوُّلاتِ الفِكرية يُمثِّل مَنظورًا وُجوديًّا لشخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع ، وكيفيةِ رَبْطِهما معًا في مركزيةِ الذات ، والانطلاقِ مِنها نَحْوَ سُلطة المعرفة المُهَيْمِنَة على العلاقات الاجتماعية . وإذا كانت سُلطةُ المعرفة تُولِّد آلِيَّاتٍ لُغَوية لمساعدة العَقْل الجَمْعي على التَّحَكُّم بعناصر الواقع المُعَاش ، فإنَّ العلاقات الاجتماعية تُطوِّر أدواتٍ فِكرية لتحقيق المصالح الذاتيَّة والجَمَاعِيَّة كَمًّا وكَيْفًا ، مِمَّا يُساهِم في إعادةِ صِياغة طبيعة الفرد في مَسَارِه الحياتي معنويًّا وماديًّا ، وإعادةِ تشكيل البناء الاجتماعي في الواقع المُتَغَيِّر ثقافيًّا ورمزيًّا .
2 – لا يُمكِن اختزالُ التَّحَوُّلات الفِكرية في قوالب جاهزة ، وأنماطٍ مُعَدَّة مُسْبَقًا ، ولا يُمكِن السَّيطرة عليها بِدِقَّة ، أو التَّنَبُّؤ بِمَدَاها وتأثيرِها، لأن هذه التَّحَوُّلات مِثْل الانفجاراتِ اللغوية في الوَعْيِ التاريخي للحضارة ، والمَنظورِ الثقافي للمُجتمع . وإذا كانَ الفِكْرُ يَستمد شرعيته مِن قُدرته على تَوليد المفاهيم مِن الواقع المُعَاش ، فإنَّ اللغةَ تَستمد مَاهِيَّتَهَا مِن قُدرتها على تَفجير الطاقة الرمزية الحاملةِ للألفاظ والمَعَاني. وهُوِيَّةُ الفِكْرِ وكَينونةُ اللغةِ تُعيدان تأويلَ تفاصيلِ الحياة اليومية التي يُهيمِن عليها الاغترابُ ، بِحيث تُصبح هذه التفاصيلُ قُوَّةً دافعةً للتجاربِ الشخصية التي تُشير إلى أحلامِ الفَرْدِ المَكبوتة وذِكرياته الكامنة ، ورافعةً للوُجودِ الثقافي في الهياكل الاجتماعية المَنْسِيَّة . وَبِدُون تحليلِ العناصرِ المَكبوتةِ والكامنةِ والمَنْسِيَّةِ في أعماقِ الفردِ والمُجتمعِ ، لَن يَكُون هُناك تأويل لُغَوي حقيقي لإفرازات سُلطةِ المعرفة في القِيَمِ الاستهلاكية والمَعَاييرِ الأخلاقية ، لأنَّ التأويلَ قائمٌ على الرُّمُوز ، والرُّمُوز لا تُوجَد على السَّطْحِ ، فهي حاملةٌ للهُوِيَّاتِ المركزية والمَاهِيَّاتِ الأساسيَّة ، لذلك تَستقر الرُّمُوزُ في أعماق الوجود الإنساني الفَرْدي والجَمَاعي ، وهي بِحَاجَة إلى تنقيبٍ مُستمر ، وتَوظيفٍ دائم في النَّزعة الإنسانية المُتَحَكِّمَة بأبعاد البناء الاجتماعي باطنيًّا وظاهريًّا .
3 – التَّحَوُّلاتُ الفِكريةُ هي سِلْسِلَةٌ مِن التأويلات الرمزية اللغوية لِبُنيةِ الواقع، والفاعليَّةِ اللغوية، والسُّلوكِ اليَومي، ومَسَارَاتٌ حياتيةٌ تَجْمَع بَين الفِعْلِ الاجتماعي والعَقْلِ الجَمْعي ، اللذَيْن يُسيطِران على شخصية الفرد الإنسانية، ويَتَحَكَّمَان بتأثيراتِ سُلطةِ المُجتمع على مَصادرِ المعرفة . وإذا كانَ الهدفُ مِن الفِعْلِ الاجتماعي هو إعادةَ صِناعة الذات ، وتحليلَ الوَعْي التاريخي المُتمركز حَوْلَهَا ، فإنَّ مُهِمَّةَ العَقْلِ الجَمْعي هي إعادةُ الفردِ مِن الغِيَابِ في الأنظمة الاستهلاكية الماديَّة ، إلى الحُضُورِ في الأنساق الإنسانيَّة المُبدِعة ، وإعادةُ العلاقاتِ الاجتماعية مِن الاغترابِ في الإدراكِ الوَهْمِي القائم على المَشَاعِر المِيكانيكية ، إلى الطاقةِ الرمزية اللغوية القائمة على العقلانية، التي تَنقُل التَّكوينَ الثقافي للفردِ مِن البُنى المُجَرَّدة الهُلامية إلى الواقع، مِن أجل تغييره إلى الأفضل .
4 – الواقعُ المُؤلِمُ أفضلُ مِن الوَهْمِ اللذيذ ، لأنَّ الألمَ يَكشِف مواطنَ الخَلَلِ ، ويُجبِر الفردَ على البحث عَن علاج مِن أجل التَّخَلُّصِ مِن المُعَاناة ، والشُّعُورِ بالرَّاحَة . وكذلك مُواجَهة الأحداث اليومية الصادمة أفضل مِن الهُرُوبِ مِنها ، لأنَّه مُواجهتها تَكشِف التَّحَوُّلاتِ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية ، وتُظهِر أهميةَ الغَوْصِ في أعماق الوَعْي التاريخي مِن أجل تجذيرِ شخصية الفرد في الظواهر الثقافية كِيَانًا وكَينونةً ، وترسيخِ هُوِيَّة المُجتمع في مَنطِق اللغة الرمزي تَصَوُّرًا وتَحَقُّقًا ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَعَدُّدِ زوايا الرُّؤية للواقعِ اليَومي والوقائعِ التاريخية ، والوُصولِ إلى مَنظور لُغَوي جديد ، يَعتمد على تأويل أحلام الفرد المَكبوتة ضِمْن الانقطاعات المعرفية في التاريخ ، بِوَصْفِه فلسفةً لمركزية الذاتِ في الوُجود ، ومركزيةِ الزمن في الحضارة . وهذه الفلسفةُ لَيْسَتْ نِظَامًا آلِيًّا جامدًا ، وإنَّما هي مَنظومةٌ حاضنةٌ للصِّرَاعات والتناقضات ، ومَفتوحةٌ على كافَّة الاحتمالات والتأويلات . والتاريخُ لَيْسَ مرحلةً زمنيةً مَضَتْ وانقَضَتْ ، أوْ أرشيفًا مُغْلَقًا في مِلَفَّاتِ الغُبار ، إنَّ التاريخ يُولَد باستمرار ، وتُعاد كتابته دائمًا ، ويَتِم تأويلُه بشكل مُتواصل في اللغةِ القادرة على مَنْحِ الحَيَاةِ والحُرِّيةِ للأنساق الثقافية . والتاريخُ هو نظامُ النَّقْدِ الاجتماعيِّ العابرُ للزمانِ والمكانِ ، والعَصِيُّ على التَّجنيس . ووظيفةُ التَّحَوُّلاتِ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية تتجلَّى في رَبْطِ شخصية الفرد الإنسانية بِسُلطةِ التاريخ الوُجودية، بحيث تُصبح إنسانيَّةُ الفردِ فلسفةً للتاريخ،ويُصبح وُجُودُ التاريخِ وُجُودًا للإنسانية، يُوجَدان معًا،ويَغيبان معًا ، ولا يُمكِن الفصلُ بَينهما.